انتهى أرسين فينغر، الذي يجب أن نشير إليه الآن على أنه المدير الفني السابق لنادي آرسنال، من تناول وجبة الإفطار في فندق باريس الذي يتردد عليه منذ سنوات، ثم تناول كوباً من الشاي دون حليب أو سكر، ثم فنجاناً آخر من الإسبريسو، وبدأنا الاستعداد للحديث عن الـ22 عاماً التي قضاها المدير الفني الفرنسي في تولي القيادة الفنية لأحد أكبر الأندية في العالم. ولأنه دائماً ما كان يفكر في المستقبل وليس في الماضي، بدأ فينغر الحديث عن مستقبله بعد الرحيل عن «المدفعجية». وبينما كنا نجلس معا في أول مقابلة مطولة له منذ رحيله عن آرسنال، كانت مباراته أمام هيدرسفيلد تاون - وهي آخر مبارياته الـ1235 في تدريب آرسنال - لا تزال محفورة في ذهنه بجميع تفاصيلها. وقال فينغر: «من المبكر جداً معرفة ما سأفعله بعد ذلك، فأنا لم أفرغ مكتبي في آرسنال من متعلقاتي حتى الآن، وما زلتُ في حالة صدمة بطريقة أو بأخرى. سوف أمنح نفسي فرصة حتى 14 يونيو (حزيران)، وهو اليوم الذي ينطلق فيه كأس العالم، لكي أتخذ القرار المناسب. يتمثل السؤال الآن فيما إذا كانت لا تزال لدى الرغبة في العمل في مجال التدريب، وأن أجلس على مقاعد البدلاء، أم أن الوقت قد حان للقيام بعمل شيء مختلف. الشيء الوحيد الذي يمكنني قوله بالتأكيد هو أنني سأستمر في العمل». وأضاف: «لكن هل أريد الاستمرار في المعاناة بنفس القدر؟ في الحقيقة، أنا أريد الاستمرار في الدفاع عن أفكاري بكرة القدم، وهذا أمر مؤكد. من الطبيعي أن أقول إنني لا أزال أرغب في العمل بمجال التدريب، لكن لا يمكنني التأكيد على ذلك». ولم يتوقف فينغر عن العمل لمدة 34 عاماً. وفي وقت كان فيه المديرون الفنيون يأخذون فترات للراحة والاستجمام، وكان متوسط عمل المدير الفني في الدوري الإنجليزي الممتاز يصل إلى أقل من عامين، لم يحصل فينغر على أي إجازة منذ أن تولى قيادة نادي نانسي الفرنسي عام 1984. ومع أخذ ذلك في الاعتبار وعدم الحاجة من الناحية المالية للعمل مرة أخرى، فهل يتوقف فينغر عن العمل؟ يقول المدير الفني الفرنسي مبتسماً: «لدي أصدقاء يستطيعون الاستمتاع على الشاطئ طوال اليوم خلال فترة عطلتهم، وأنا أحسدهم على ذلك. أما أنا فلا يمكنني فعل ذلك، لأنني سأشعر بالملل. أنا أحتاج إلى أن أفعل شيئاً، وأحتاج لتحدٍّ جديد. كنت أعيش وأتنفس كرة القدم طيلة هذه السنوات، وأنا أعشق هذه اللعبة، ولا أستطيع تخيل القيام بأي شيء آخر. وهذا هو السبب في أن هذه لحظة مثيرة بالنسبة لي أيضاً، فلدي صفحة جديدة في حياتي، صفحة فارغة تماماً أمامي. وكما يعلم جميع الكُتاب الجيدين، يمكن أن يكون هذا وقتاً يشعر المرء خلاله بالقلق، لكني آمل ألا يحدث ذلك معي. إنها أيضاً فرصة جيدة لكتابة فصول جديدة في حياتي». ويمكن القول إن الحديث مع فينغر عن كرة القدم يجعلك تشعر وكأنك أمام موسوعة حية. لقد شارك في جميع البطولات الدولية الكبرى، وسوف يحضر كأس العالم 2018 بروسيا كمحلل بشبكة «بي إن سبورتس» الرياضية، كما عمل مع قنوات في الشرق الأوسط وفي فرنسا مع صديقه القديم المدير التنفيذي النائب السابق لرئيس نادي آرسنال ديفيد دين. وكان من حسن حظي أن أرافقه في بعض تلك الرحلات وأن أعمل إلى جانبه في بعض البرامج التلفزيونية. وفي الحقيقة، يعد فينغر ضيفاً رائعاً بالنسبة لأي محاور تلفزيوني، لأنه يمتلك ذاكرة قوية للغاية فيما يتعلق بالمباريات واللاعبين، ويفكر بطريقة مختلفة في كثير من الأحيان عن كل من هم حوله. ويجب الإشارة أيضاً إلى أنه يمتلك شخصية مرحة للغاية بشكل أكبر مما يتصوره كثيرون. وخلال كأس الأمم الأوروبية عام 2016، على سبيل المثال، كان فينغر يعمل جنباً إلى جنب مع شخصيات كبيرة مثل الهولندي رود خوليت والفرنسي مارسيل ديساييه والفرنسي لويس فيرنانديز والإيطالي كريستيان فييري، وفي كل مرة كنت أدخل فيها إلى الغرفة التي كانوا يجلسون بها معاً قبل التصوير كنت أرى فينغر وهو لا يتوقف عن إلقاء النكات. وبعد الانتهاء من البرنامج كل يوم باختبار عن معلومات في كرة القدم، كان فينغر يتمتع بقدر كبير من التنافس مثل النقاد الآخرين، بل وكان ينضم إلى الاحتفالات التي يقوم بها الجمهور في الاستوديو ويقلد حركة الأمواج التي يشتهر بها الجمهور المكسيكي. لكن في الأيام الأخيرة، كان الجمهور يودع فينغر، ليس في آرسنال فقط ولكن في أولد ترافورد أيضاً، وفي مباراة هيدرسفيلد تاون. يقول المدير الفني البالغ من العمر 68 عاماً: «كان المشهد مؤثراً جدّاً بالنسبة لي. كما كانت هذه الفترة غريبة للغاية، من حيث التحول من التشكيك في قدراتي إلى الإجماع الهائل على إمكانياتي في غضون أيام قليلة. لقد كان الأمر غريباً للغاية، لكنه كان لطيفاً أيضاً. لدي انطباع بأن الناس يريدون توجيه التحية لي بسبب الفترة الطويلة التي قضيتها مع آرسنال وولائي الكبير للنادي، وربما الأفكار التي حاولتُ دائماً الدفاع عنها في كرة القدم. إنني أنظر إلى ذلك على أنه اعتراف بالتزامي الكامل تجاه القيم التي اعتز بها وأدافع عنها والرغبة في تقديم كرة قدم جميلة وهجومية». وأضاف: «هذا الشكل من ولائي للنادي ربما لم يعد موجوداً الآن. وقد ينظر إلى البعض على أنني أقدم فكراً قديماً بسبب الوقت الطويل الذي قضيته في النادي، والذي تغيَّر خلاله كثير من الأشياء. نحن اليوم في مجتمع يرفض الأشياء بسرعة ولا يعطي وقتاً للبناء ويطالب بتحقيق النجاح بشكل سريع وفوري. ربما أراد الناس إظهار ذلك أيضاً». وتابع: «إنه لشيء جيد أن أرى بعضاً من الإشادة والاعتراف بقيمة ما قدمته. عندما جئتُ إلى إنجلترا، لم أكن معروفاً على الإطلاق وكان لدي دائماً انطباع بأنني أمثِّل بلدي بطريقة ما. وفي أرض دائماً ما تشهد الكثير من العداوة بين الإنجليز والفرنسيين، أشعر بالفخر لأنني حققت أشياء معينة وربما فتحت الباب أمام مزيد من المدربين الفرنسيين الآخرين. ولا تنسوا أنه عندما وصلت إلى إنجلترا، كان المدير الأجنبي أمراً نادراً للغاية». وعلى الرغم من أن فينغر لا يريد الخوض في التفاصيل، فإنه يعترف بأنه تلقى كثيراً من العروض. وفي فرنسا، يرى كثيرون أنه مناسب تماماً لتولي منصب المدير الفني لنادي باريس سان جيرمان. صحيح أن النادي قد أكد أخيراً على أن توماس توخيل هو المدير الفني القادم، لكن يُنظر إلى فينغر على أنه المدير الفني المثالي للنادي الفرنسي. وقال فينغر: «يمكنني أن أقول لكم بكل صراحة إنه لم تكن هناك أية مفاوضات معهم في الآونة الأخيرة. كنت دائماً على مقربة من المسؤولين عن باريس سان جيرمان، وقد نصحتهم بشراء النادي لأنني كنت مقتنعاً بأن هناك أشياء عظيمة يمكن القيام بها في مدينة تعشق كرة القدم. لقد عملوا بشكل جيد وقدموا بداية جيدة، لكن أعتقد أن الناس يطلبون منهم أشياء أكثر من اللازم ويتعاملون معهم بشكل قاسٍ. لقد فاز باريس سان جيرمان بكل الجوائز المحلية الأربع في فرنسا، لكن يبدو أن هذا ليس كافياً! لكن لا يمكنك بناء نادٍ على فكرة أنه إذا لم تفز بدوري أبطال أوروبا، فسيكون ذلك بمثابة فشل». وعلى الرغم من عمل ملاك نادي باريس سان جيرمان بنصيحة فينغر، فإن المسؤولين في نادي آرسنال لم يأخذوا رأيه فيما يتعلق بهوية من سيخلفه في منصب المدير الفني للنادي. وبينما اختار المدير الفني الأسطوري لنادي مانشستر يونايتد السير أليكس فيرغسون خليفته في النادي، سيكون فينغر متفرجاً على الأحداث التي ستجري في ملعب الإمارات في المستقبل. يقول المدير الفني الفرنسي ضاحكاً: «على الأقل لن يلومني أحد لو حقق المدير الفني القادم لآرسنال نتائج سيئة. لم يطلبوا مني المشاركة في هذه العملية، لذا سأتركهم يختارون المدير الفني القادم وبعد ذلك سأدعمه، أياً كان». وتردد اسم الإسباني ميكيل أرتيتا، مساعد المدير الفني لمانشستر سيتي جوسيب غوارديولا، لتولي قيادة آرسنال، فما رأي فينغر في ذلك؟ يقول المدير الفني الفرنسي: «لا أريد التأثير على هذا القرار - من المهم أن يختاروا المدير الفني القادم بطريقة موضوعية، ولا أرغب في أن يُساء فهم أي شيء أقوله. أنا أعرف كيف يكتب الصحافيون عن مثل هذه الأشياء، فإذا قلت شيئاً لطيفاً عن شخص ما، فستكتبون أنني أؤيده، لكن الأمر ليس كذلك. بالنسبة لأرتيتا، يجب أن نطرح السؤال التالي: هل لديه كل الصفات التي تؤهله للقيام بهذه المهمة؟ والإجابة هي: نعم لديه المقومات اللازمة لذلك، فقد كان قائدا في الملعب ولديه شغف جيد باللعبة وهو يعرف النادي جيداً. إنه يعرف ما هو مهم في النادي، كما كان قائداً للنادي. إذن، لمَ لا؟ لكنني سأدعم أي مدير فني يختارونه». وقبل أن يحدد فينغر مستقبله، يجب عليه العودة إلى مكتبه في آرسنال للحصول على متعلقاته وتوديع المسؤولين واللاعبين. يقول فينغر: «أنا رجل عاطفي، وقد يكون الأمر صعباً، لكنني أرى أن الحياة ستستمر. وسوف يتدرب لاعبون صغار ويلعبون مع الفريق، وسيكون هذا بمثابة تذكير لي بمدى حبي وعشقي لهذه اللعبة وبدوري كمدير فني. عندما تكون صبياً صغيراً يكون لديك حلم، ولكي تحقق هذا الحلم يجب أن تكون لديك الموهبة، لكنك تكون أيضاً بحاجة لشخص يمنحك الفرصة المناسبة». وأضاف: «لقد نشأتُ في قرية صغيرة والتقيت بأول مدرب لي وأنا في سن التاسعة عشرة. لكن عندما كان عمري 12، و13، و14 عاماً، كان حلمي أن ألتقي بشخص يقول لي كيف ألعب كرة القدم. لقد كنت محظوظاً - لم يمنعني ذلك من مواصلة مسيرتي في كرة القدم، لكن كثيرين لم يحصلوا على هذه الفرصة. يجب أن ندرك أننا كمديرين فنيين يمكننا أن نغير حياة الناس، وجزء من ذلك يتمثل في إعطاء الفرصة للاعبين الشباب. هذا واحد من أجمل الأشياء التي يمكنك القيام بها». وبعد هذا الحوار الطويل، كان الوقت قد حان لتناول الغداء، والفرنسيون بالطبع لا يتأخرون عن شيء كهذا. ولم يكن هناك سوى قليل من الوقت لكي يلتقط فينغر صورة مع أحد المعجبين الشباب الذي أخبره بأن هذا اليوم قد يكون الأجمل في حياته لأنه أخذ صورة مع فينغر وطلب منه التوقيع على قميص آرسنال. ووقع فينغر على القميص، في الوقت الذي لا يعرف فيه الوجهة المقبلة بالنسبة له بعدما أن طوى صفحة مهمة في حياته وفتح صفحة جديدة تماماً.
مشاركة :