تحقيق: إيمان سرور يعترف القائمون على التربية والصحة النفسية أن هناك نسبة كبيرة من طلبة المدارس تعاني ضغوطاً نفسية يتسبب فيها أولياء الأمور «الأسرة» والمدرسة والمجتمع، وتفيد أحدث الدراسات، أن الاضطرابات النفسية تشكل عبئاً ثقيلاً على المجتمع بنسبة 25%، وأن 60% من الاضطرابات النفسية تبدأ في مرحلة الطفولة والمراهقة قبل عمر 18 سنة، بسبب خلل في العوامل الوراثية والجينية وتفاعلها مع البيئة، مشيرين إلى أن 1 من بين 5 أطفال يعاني اضطراباً أو مشكلة نفسية، حيث أشارت الإحصاءات العالمية إلى أن 15 إلى 20% من الأطفال يعانون الاضطراب النفسي، وتتقارب هذه النسبة في مدارسنا مع هذه الإحصاءات، وتحتل ظاهرة اضطرابات القلق وفرط الحركة لدى الأطفال المرتبة الأولى. التحقيق الآتي يكشف عن مدى حاجة مدارسنا اليوم للتوعية والاهتمام بالصحة النفسية للأبناء بعد أن لمسنا تفشي بعض أمراض العصر ومنها الاكتئاب النفسي والقلق والتوتر، الذي كشفت عنه إحدى الدراسات التي أجريت مؤخراً في عدد من المدارس بأن 23.9% من الأطفال بين عمر 6 و15 عاماً يعانون مشاكل في الصحة العقلية تتمثل في اضطرابات الاكتئاب والقلق والتوتر والعصبية المفرطة التي تصل إلى حد العنف، كما نبحث مع عدد من التربويين والاختصاصيين النفسانيين والاجتماعيين في المدارس من خلال التحقيق، أسباب تفشي هذه الأمراض، والحلول الناجعة التي ينبغي أن يقدمها المختصون للتخفيف من حدتها وما ينتج من عنف مصاحب لها داخل مدارسنا.أشارت الدكتورة كريمة العيداني اختصاصية نفسية، إلى أن الطفل عندما يبدأ حياته المدرسية قد تظهر عليه بعض الأعراض النفسية، مثل الميل إلى الانطواء أو الخوف الذي لا مبرر له، وعدم القدرة على التكيف مع المجتمع المدرسي، وقد تكون الأعراض عابرة، ولكن إذا تكررت أو استمرت لفترة طويلة فينبغي التدخل السريع والبحث عن مصادر القلق والخوف المتعمقة جذورها بداخله. إننا في بعض الأحيان لا ننتبه إلى مدى عمق الاكتئاب الذي ينتاب هذا الطفل، ولا يفهم المحيطون به مشاعره وأحاسيسه، كما ينبغي على الاختصاصي النفساني في الروضة أو المدرسة أن يبحث أولاً في المحيط العائلي الذي يعيش فيه الطفل، وعلاقته بالوالدين والإخوة، مع محاولة تنظيم هذه العلاقة حتى لا يصاب بالاضطراب مرة أخرى، وتوجيه الوالدين إلى كيفية معاملته ومعرفة العوامل التي أدت إلى ظهور المرض النفسي لديه وكيفية علاقته بزملائه ومدى قدرته على التحصيل، لأنه ربما قد وضع في مرحلة دراسية تحتاج إلى مستوى ذكاء أكبر من قدرته، وبهذا نظلمه ويضغط الوالدان عليه، وهو غير قادر على مجاراة زملائه في الدراسة، فتبدأ الشكوى من أعراض الأمراض النفسية. خوف من المدرسة قالت الدكتورة جيهان فؤاد اختصاصية نفسية إن القلق عند طلبة المدارس صغار السن يظهر في صورة خوف من الذهاب إلى المدرسة لمرات متكررة ما يستدعي اهتمام الأسرة والذهاب لزيارة الطبيب المتخصص منعاً لتدهور الحالة النفسية للطفل ويصبح أكثر انطوائية، مؤكدة ضرورة رفع الوعي في المجتمع بالإقبال على الطب النفسي للأطفال واليافعين وتعريف الأهالي بالأعراض المبكرة للأمراض، كما ينبغي على الباحثين مضاعفة الجهود في الأبحاث العلمية المتعلقة بالصحة النفسية، نظراً لندرتها في الدولة. وأكد سعيد بكري اختصاصي نفساني، أن الاضطرابات النفسية تلقي بظلالها على مجمل الحياة اليومية للشباب، لاسيما طلاب المدارس من حيث وجوب تركيزهم وانتباههم واستيعابهم لموادهم الدراسية وتأثير ذلك في دافعيتهم وصحة تفكيرهم وانتظامهم في دراستهم، مشيراً إلى أن هذه الفئة من الأبناء تتأثر أكثر من الكبار، ربما بسبب قلة خبرتهم في مواجهة مشكلات الحياة، مشيراً إلى أن حوالي 40% من شبابنا اليوم لا يمتلكون الجرأة والثقة بالنفس ويخافون من الدخول في منافسات عالمية مع أقرانهم وتسيطر عليهم حالات الخوف والقلق على المستقبل بعد التخرج.قالت الاختصاصية الاجتماعية ابتسام باعلوي، إن هناك كثيراً من العوامل التي تؤدي إلى اكتئاب الطالب وكرهه لمدرسته تتمثل في عدم رضاه عن شكله الخارجي، ومنها بدانة جسمه وتسوس أسنانه، حيث تشكل اليوم البدانة بين طلبة مدارس أبوظبي نسبة 15%، بعد أن كانت تشكل قبل أربع سنوات نسبة 40% بفضل الجهود التي تبذلها الجهات التربوية والصحية والرياضية، المتمثلة بوضع الخطط للحد من ظاهرة السمنة ومكافحتها بين أوساط طلبة المدارس، ورفع النشاط البدني، بالإضافة إلى تقديم الحلول لمعاناة الأطفال الصغار من تسوس الأسنان، لافتة إلى أن البدانة وتسوس الأسنان ينعكسان على نفسية الطالب، وبالتالي يؤدي ذلك إلى غيابه المستمر عن الدراسة، خوفاً من أن يتعرض للسخرية من أقرانه، وهذا بالطبع سيؤدي إلى الأداء المتدني والضعف الدراسي لديه، أو يزيد من خلق معاناة له تتمثل في اضطرابات نفسية ووجدانية.وأكدت عائشة المهيري أخصائية التغذية ضرورة الاهتمام بصحة وسلامة وغذاء الطلبة في المدرسة والمنزل، لكونها من أهم العوامل المساعدة لتطوير أداء الطلبة وتعزيز ثقتهم بأنفسهم، وبالتالي تحسين المخرجات التعليمية، حيث تبين أن الاكتئاب والشعور بالدونية مؤشران قويان على مستوى التحصيل الدراسي، كما أكدت ضرورة الاهتمام ببرامج تعزيز الصحة المدرسيّة في جميع مدارس الدولة.أهمية الخدمة النفسية وأشار عمر مبارك الناجم، اختصاصي اجتماعي في مدرسة المستقبل، إلى أهمية الخدمة النفسية المدرسية، مشيراً إلى أنها تكمن في اهتمامها بالتركيز على تدعيم أنماط السلوك الإيجابية وتنميتها لدى الطلاب، وكذلك التدخل لتعديل أنماط السلوك السلبية، ويمثل ذلك غاية التعليم بصفة عامة، فوظيفة المدرسة لم تعد تقتصر على حشو ذهن التلاميذ بالمعلومات فحسب، وإنما تمتد إلى الاهتمام برعاية نمو شخصياتهم نمواً متكاملاً بأبعاده المختلفة جسمياً وعقلياً وانفعالياً واجتماعياً وخلقياً ومهنياً، لتحقيق أقصى قدر ممكن من النمو المتكامل والتوافق الشخصي والاجتماعي. وقالت لطيفة الحوسني مديرة مدرسة، إن الطالب لا يعيش بمفرده بمعزل عن الآخرين في المجتمع الخارجي، بل يعيش في علاقات اجتماعية تفاعلية مستمرة مع البيئة ومتغيراتها المتلاحقة، وربما ينشأ عن ذلك ظهور بعض الاضطرابات السلوكية أو المشكلات النفسية والاجتماعية، ومن هنا يمكن تحديد أهداف الخدمة النفسية المدرسية في صورة هدف عام وأهداف فرعية، لتنمية شخصيته نمواً متكاملاً ومستمراً في أبعاده المختلفة الجسمية والعقلية والنفسية والاجتماعية والخلقية والمهنية وغيرها، لتحقيق مستوى أفضل من التوافق والصحة النفسية، وتنمية قدرته على إقامة علاقات اجتماعية إيجابية مع الآخرين في البيئة المدرسية والبيئة الخارجية، ومساعدته على تنمية مهاراته الاجتماعية المهمة للنجاح في الحياة والعمل، وكذلك مساعدته على تعديل اتجاهاتهم السلبية وأنماط السلوك غير المرغوب بها. دور كبير للأسرة وقال الدكتور صالح الجرمي، مستشار تربوي، إن الأعراض والضغوط النفسية للطالب تتمثل في الخوف والقلق والاكتئاب والشعور بالنقص والغيرة والحقد والخجل، مما يؤدي هذا بدوره إلى الانحرافات السلوكية كالكذب والسرقة والعدوانية وغيرها من السلوكات غير المرغوبة، أما الأعراض الجسمية، فتظهر في صورة فقدان الإنسان للشهية والاضطرابات المعوية والحركية واضطرابات الكلام «التلعثم والتأتأة» والنزعات العصبية واضطرابات النوم والبكاء والأحلام المزعجة والخوف من المدرسة. وأشار إلى أن الأسرة تلعب دوراً كبيراً ورئيسياً في الضغوط النفسية التي يتعرض لها الأبناء، ممثلاً ذلك بالعلاقة السيئة بين الوالدين، الأمر الذي يؤدي في أغلب الأحيان إلى التفكك الأسري وعدم استقرار المناخ العائلي وخصوصًا عند وقوع الطلاق أو وفاة احد الوالدين أو فيما يتعلق بجهل الوالدين بطرق التربية السليمة التي تعنى بالعدل بين الأبناء في التعامل وإشباع احتياجات هذا الابن من الأمن والحب والاستقرار، إضافة إلى انعدام الرعاية الصحية وسوء التغذية، أما دور المدرسة في هذا المضمار، فهو لا يقل عن دور البيئة الأسرية، إذ إن عدم توافق المادة الدراسية مع القدرات العقلية للطالب أو مع ميوله النفسية، إضافة إلى الأساليب غير التربوية التي تتبع في التعامل مع الأبناء في المدرسة من إيذاء نفسي وبدني، كل هذا يقض مضاجع نفسيات هؤلاء الأبناء ويلقي بظلاله السلبية على سلوكاتهم. تحصين الطالب ولفتت هاجر الحوسني، اختصاصية التربية النفسية، إلى ضرورة تطوير عمل الاختصاصي الاجتماعي والنفسي في المدارس، بحيث يكون قادرًا على القيام بدوره على أكمل وجه، إضافة إلى استحداث آليات جوهرية يُستطاع من خلالها إيلاء الصحة النفسية الجانب الأكبر من الاهتمام والمتابعة، ويمكن ذلك عن طريق التنسيق الحثيث والمستمر بين الاختصاصي النفساني والاجتماعي وممرض المدرسة، للعمل على تحصين الطالب وإعداده نفسياً لمواكبة متغيرات المجتمع الخارجي، وكذلك الاهتمام بتنظيم محاضرات التوعية لأولياء الأمور باعتبار الأسرة أول حاضن للطفل التي تغرس فيه الأخلاق والسلوك بصفة يومية ومنذ نشأته.وأكدت رؤى حسين الاختصاصية النفسية في إحدى المدارس الخاصة أن العلاج النفسي سواء عن طريق اللعب أو الرسم، والرحلات الترفيهية يساعد على اكتشاف الصراعات الداخلية لدى الطفل، مثل الخوف، أو الشعور بالنقص، أو الاكتئاب والقلق، لافتة إلى أن الجانب الأكبر من العلاج يعتمد على الوالدين والمدرسة، حيث إن معظم الاضطرابات النفسية للأطفال يحتمل أن يكون سببها عدم فهم حاجات الطفل النفسية في مراحل العمر المختلفة، سواء من جانب المدرسة أم من جانب الأسرة، ناصحة أولياء الأمور والتربويين بعدم التعامل مع الطفل بقسوة وتوبيخه باستمرار، مع ضرورة احتوائه نفسياً وعاطفياً بالتفاهم والحنان والحب حتى يكون طفلاً سعيداً في مدرسته، ولحمايته من الأعراض النفسية، التي تهز العلاقة بينه وبين أفراد أسرته وأصدقائه ومعلميه.اجتهادات شخصية الدكتورة النفسانية في أحد المستشفيات الخاصة علوية جمال قالت إن هناك نسبة من الطلبة في مدارسنا تسربت وتركت مقاعد الدراسة لظروف أسرية أو لتوبيخ غير محتمل من المعلمين، ولم يكشف أحد ذلك لأن بعض المرشدين النفسيين أو التربويين في بعض المدارس لا يمارسون دورهم على أكمل وجه وينظرون إلى أنفسهم على أنهم موظفون تربويون فقط، مشيرة إلى أنه غالباً ما يكون الاختصاصي النفسي أو الاجتماعي يشكل عاملاً لتفاقم المشكلة عند الطالب لتقديمه حلولاً تعتمد على اجتهادات شخصية، لذلك ينبغي التركيز على تأهيل الاختصاصيين النفسانيين والاجتماعيين في المدارس باعتبارهم حجر الزاوية في تقويم أي تصرف يخرج عن المألوف، ويخفف من حالات الاكتئاب أو التسرب من المدرسة.
مشاركة :