أنتجت جميع الشعوب التي وقعت تحت نير الاحتلال الأجنبي، أولاً، ثم تعرضت لاستبداد أو بطش حكامها، مدونات ثقافية وأدبية تناهض هذا الوضع، تدينه وتحرِّض عليه، داعية بشجبه إلى بديله، أي نيل الحرية وإقرار العدالة والديموقراطية. في الحالة الأولى، سُميت أدب مقاومة، وفي الثانية لم تستقر لها تسمية ولا مصطلح، وإن غلب عليه مفاهيم الواقعية والالتزام، والواقعية الاشتراكية. معلوم أن المقاومة نهج سياسي وفعل نضالي، لتحقيق هدف محدد، فيكون الأدب عندئذ بأدواته جميعها مسخّراً له، كذلك يضمحلّ أثره بعد حصول الغاية. في الحالة الثانية، وببعض تفاوت، عند تحقق مطامح التغيير والعدالة مجملاً، يكون الأدب قد أدى رسالته، فينتقل، إذن، إلى هدف آخر، حيث يبقى في مرتبة الرسالة، فيما يختلف الأمر جذرياً حين يتحول على يراع منشئيه إلى تعبير بمقتضياته الأدبية والإنسانية، ما يسمح له بوجود مستقل، وذاتية متفردة، وخيال فسيح، وأفق واسع لا تغلقه الرسالة ولا اليقينيات، فينطلق، شأن الآداب الغربية، في مسارات تجدُّد وحداثات تلبي حاجات مختلفة. استقلت البلدان العربية، وتكرّس أدب المقاومة الفلسطينية، حتى رفضه الفلسطينيون أنفسُهم، عدُّوه تنقيصاً من قيمة أدبهم، وهذا صحيح، واستقر أدبنا العربي كله في قوالب ومضامين، إذ لم يبرح أغلبُه رصد تيمات أوضاع البؤس، وهدر الحقوق، وكبت النفوس، والاستبداد. أدبٌ سعى يتكوّن وينمو بين وظيفة الرسالة والمرآة الاجتماعية، وبين تملّك لغته وأدواته. وكل النقد العربي تراوح إجمالاً بين هذين الحدين، وتحول طرداً وعكساً حسب غلبة تيار. وأدب العرب اليوم نرى أغلبه يكتب، ويُقرأ أيضاً، حسب ولادة وصيرورة هذا التيار الذي يسمى الربيع العربي، ظهر وانتكس، وصار خراباً ووبالاً عظيماً كحاله الآن في سوريا. رغم إخفاق الربيع، فالنص المركزي تقريباً، وفي الحالة السورية، كل شيء محفله الرواية، أضحت التعبير والمطية النصية في أدب العرب الآن، بغث كثير وسمين ما أقله. ربيع سوريا منذ انطلق ربيع سوريا وإلى الوقت الراهن، تواصل تراكم الروايات بما يمثل مدونة قابلة للدرس والتصنيف، على رغم أنه وقت وجيز لا يستقيم معه إنجاز دراسة فاحصة وتقويمية بالمعنى الدقيق لنصوص ولروايات كتبت مع، وفي، فورة الأحداث، وبدت مثل شريط يسجل ما يجري، تلهث خلفه، تحترق فيه، ومنها أكثرها احترف العملية، عمدته الخيال/ التلفيق أكثر مما وعى وأبصر الواقع، منطلق التخييل، عماد الرواية. بإمكان الدارس المتعجل، شأن من توسل بالسرد لوصف الحال واتخاذ موقف، أن يبوِّب ويصنف، وما يشاء، سيختزل لا محالة، يبتسر ويعمِّم، يُعلي هنا ليبطش هناك، صنيع الكتاب السوريين ببعضهم، حين يتفاخر الواحد منهم أنه الأوفر تجربة، الأحذق فنا، الأصفى سريرة، لِم لا الأخلص وطنية إن لم يكن قد غادر الوطن، أما النصوص التي نالت تقديراً ما، أو أصابت حظ جائزة، هما أبعد عن النقد الأدبي القويم، فتتلبس في عيونٍ عليها غشاوة بالتقديس، ولا نكاد ننتبه نحن معشر المتلقين والقراء أننا ننسحب بالتدريج من مجال الأدب، قد فقدنا البوصلة وضِعنا في الكلام. الحال، أنه لا ضير من تسمية هذه النصوص، تعددت مستوياتُها وقيمتُها، بأنها أدب مقاومة. المهم هنا ليس التوصيف، شبه تحصيل حاصل، وإنما دلالته، الثاوية في معناه ومرماه. جميع الروايات التي واكبت واقع سوريا منذ اندلاع ثورتها، أحداثها، بتباين الاسم والصفة، تتسم بالخصائص التالية، مفردة ومجتمعة: الشهادة، التوثيق، الإدانة، التحريض والموقف السياسي. بحكم الزمن الذي أنتجت فيه متفاعلة مع سخونة إن لم نقل دموية وأهوال الحدث، فهي كلها تتسم بالآنية، كونها كتابة فورية، تنسجم مع نص الشهادة والتحقيق والإعلام والمباشرة. توسَم بالأدبية لتخلّقها في القالب الروائي، أو لتملكها مقتضياته الفنية بهذا القدر أو ذاك، إلى جانب مهمتها مادة ومقصداً. إن السياق الذي تُمخض فيه هذه النصوص وتولد بعد، تحمل نطفته ولا وجود لها بدونه، تجعلها نتاج الحدثيّة وبنت الفورية، فيما اعتدنا القول إن الرواية، وهذا رأيي، ليست فن الآني، بخلاف القصة القصيرة، تتباعد عن زمنها لتفْهمَه، وتقدِر على إعادة تشكيله بما يوائمها، كي يصبح نصها معادلاً أدبياً موضوعياً لماضٍ اكتمل، إلا ما ندر لا يقاس عليه، لا حكم له، ويمكن أن نقلب حجته بسهولة. أعود فأقول، لا ضير أن نسمي هذا أدب مقاومة، آخذين في الحسبان كذلك أن الأدب يقاوم أساساً إلى جانب الظلم والاستبداد، الغبن واللاإنسانية والقبح والاستباحة والقهر والحرمان، بهذا تسقط كل صفة (قدحية) محتملة على كتابة من هذا القبيل، بل تزداد علواً إذ تجمع بين حُسنيين، لا سيما إذ يخوض غمارَها كُتابٌ ذوو خبرة عاشوا التجربة الوطنية الاجتماعية، وكتبوا قبل ظرفية الربيع، فتأتي رواياتهم جزءا لماض في سياق حاضر لا ركبوا موجة. روائيون سوريون أعلام، ليس هنا مجال الحصر، فأستشهد بما يمليه عليّ اطلاعي على متن كبير، أجد يشغل فيه الروائي نبيل سليمان موقعاً راسخاً أرساه التراكم والانتظام وتبلّر خصائص فنية وتجوهُر قيم دلالية، لا غنى عنها لتصبح مدونة كاتب قابلة للدرس والتقويم. ويغريني حضور نبيل سليمان هنا خصوصاً لتوافق رواياته، أشدد على» ليل العالم» (بردية للنشر، القاهرة، 2017) توافق الفهم الأدبي والتأويل النقدي اللذين أسوِّغ بهما مفهوم أدب المقاومة، أجد عنده ما يزكِّيه بدون قلق ولا ارتياب، وبما يتعداه إلى إبدال تركيبي مقبول. إن طواعية نص ما للتأويل بما يملك، لا بإسقاط نظري يخضعه للقراءة، لدليل غنى حقيقي. صورة بانورامية وأول ما يستدعي الانتباه العنوان الفرعي للرواية، وهو (داعش في الرّقة) وهو يكمل وجوه الصورة البانورامية التي يحدد كل وجه فيها علامة سيميائية، من جهة، وبراديغم الخطاب، من جهة ثانية، سيجد قارئ هذه الرواية الفسيحة، عديدة المحكيات، متشعبة المسارات، متقاطعة المصائر ما أكثرها، بجغرافيتها الدقيقة، وحالتها المدنية المدققة، وسِيَرها التاريخية الموثقة، متعالقة بين ماض بعيد قريب مندرجين في سياق حاضر الخراب، سيجد القارئ المكونيْن العلاماتي والخطابي منسوجين في قماش متين فاتن لروائي يعرف شغله، فما هو؟ يبدو استهلال رواية سليمان من جنس رواية غارسيا ماركيز (1927ـ2014) الشهيرة «تعليق على موت معلن» إذ يأتي المكتوب سرداً لحدث القتل المحتوم لسانتياغو نصار في ساعات معدودة. نحن نلج «ليل العالم» وكل شيء حدث وانتهى، ويتلخص في معلومتين لفاجعة واحدة، الفتك بالإنسان وخراب المكان: احتلال داعش لمدينة الرقة، حيث أقامت عاصمة خلافتها المزعومة، وقتل هفاف، بنت المدينة وحبيبة منيب الشجاعة، على يدها. الرواية كلها يسردها منيب مُلملماً في فقرات متعاقبة معنونة ما حدث لهفاف وحولها وهو معها، ينسج محكيُّ وعالمُ الرواية بملاحقة سؤال لماذا قُتلت هفاف، بالأحرى خنقُها في الساحة العامة، أسئلة تفتح في كل مرة باباً على قصة وشخصيات ووقائع تعيد بناء مجتمع الرقة بل وسوريا الساحل خاصة كيف كان وما آل إليه، ويرتسم أمامنا التاريخ متسلسلاً، مرة، متقطعاَ، متهادياً بينهما كعزف الأكورديون، ذهاباً وإياباً بين قتل هفاف وحياتها الحافلة بالتحدي مذ تلمذتها إلى وظيفتها مدرِّسة، وهي في قلب مجتمع متعدد الأعراق والأديان والمشارب الفكرية، وإن ضمن هيمنة الحزب الوحيد وأجهزته الأمنية تخضع الجميع، إلا هفاف، ومنيب، يستعصيان على الطاعة، ويبقيان هكذا مخطوبين بلا زواج عصيِّيْن على التصنيف، وبعد انفجار الربيع تهدر المظاهرات وتتوالد حركات الرفض والثورة، في النهاية تسقط الرقة في يد داعش فارضة شرعها وبطشها وأجهزتها شأن النظام السابق، بسجونه وجلاديه ومخبريه، بإخراج مختلف، وبقمع مرعب للحريات وتأويل خانق للدين. إنه ليل العالم حقاً، بالتعيين والاستعارة، لذلك تتراوح الكتابة بين أكثر من سجل، سرد ووصف (قاموس داعشي كامل) بكم هائل من معلومات تمثل الروائي العارف المحيط بمجاله، ويمكن أخذها وثيقة لبيئة ومرحلة في زمن الخراب هذا، ترى كاتبها لا يأنف من جلب كل ما يغني معرفتنا بتكاثف سُدُف هذا الليل، بعين ولسان منيب بطله وسارده العليم هو نفسه لسانه، ومن الشخصيات الرئيس في دائرة رقصة زمن الظلام الدّاعشي شريكة وضحايا، ترى كاتبها وقد رسم الشهادة بحذافيرها ينزاح عنها ليستبطن النفوس ويستلهم البيئة، الفرات مؤنسناً وملهماً وملاذاً وحيداً موفراً لها العبارة الــشعرية والمجاز الموحي. وإنك لتقرأ منتقلاً بين الطرفين لا بد أن تتساءل بأي قوة امتلك نبيل سليمان نفسه كي يقدم كل القسوة والحطام والشجن والفظاعة والظلامية والقهر والانهيار الشامل المتتالي، والقتل الشنيع باسم شريعة الله، خنق هفاف، هذه الجريمة الخرقاء التي ينجح الكاتب بمهارة روائي محنك أن يجعل منها عنوان وهذيان واستعارة مرحلة بكاملها تخنقنا جميعا في» الهوتة». هكذا، يمكن للرواية العربية السورية أن تكون أدب مقاومة بأدوات دقيقة ومجربة، بلا إسفاف وشعارية فجّة، حين تنسجها وتحبكها موهبة صناع، وهي كذلك وفي الآن عينه بنت جنسها بالانتساب الفني العالي، بؤرة فردية ذاتية أولاً، ورؤية للعالم مبثوثة ومكوّنة، وثالثاً وليس أخيراً، المعمار المتماسك، بطوابق وممرات متواصلة، وبإيقاع الأكورديون، لن يتوقف عزفه في سمعنا، وسيظل نشيجاً أدبياً إنسانياً بعد أن تفنى روايات المناسبة والهتاف.
مشاركة :