يصوم الإبداع الفني في بلادنا العربية أحد عشر شهرا ليفطر في رمضان على باقات فنية متنوعة ليس المجال هنا لتقييمها، لكن حين يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية في عمل فني إشهاري فتلك حكاية أخرى قد ضجت بها مواقع التواصل الاجتماعي طيلة الأسبوع الأول من رمضان. أغنية مصورة على طريقة الفيديو كليب تحمل عنوان «سيدي الرئيس.. سنفطر في القدس»، فاض الضجيج بشأنها حتى صارت حديث الإعلام السمعي البصري ومجال إبداء الرأي استحسانا واستهجانا، ثم وصل الأمر إلى حده وانقسم المحللون السياسيون بين مستنكر ومستبشر خيرا، وآخر محتفظ بحق الرد في المكان والزمان المناسبين، ولكن بعد هذا الضجيج، هل سنفطر حقا في القدس؟ هي شركة اتصالات كويتية دأبت على التعبير بطريقتها عن قدوم شهر رمضان الكريم، من خلال إعلانها الإشهاري التجاري السنوي الذي غالبا ما تستوحيه من قضايا الواقع، لكن يبدو أن إشهار هذا العام الذي كتبت كلماته الكاتبة الكويتية هبة حمادة، ولحنه بشار الشطي، وأخرجه سمير عبود، قد تجاوز الواقع إلى الحلم وربما الكابوس، فقد تعدى الكثير من الخطوط الحمر، إذ يظهر في الفيديو طفل بريء يخاطب شخصا يجسد دور رئيس الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب، ويقول له: «سيدي الرئيس، رمضان كريم، وأنت مدعو على الإفطار...». ثم يلتقي الطفل بشخصيات أخرى على غرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع صور الدمار في سوريا، والمستشارة الألمانية «القديسة» أنغيلا ميركل وهي تنتظر المهاجرين على قوارب الموت، والزعيم الكوري الشمالي «وحيد عصره وأوانه» كيم جونغ أون وكأنه مندهش من حجم الدمار الحاصل في بيوت الأطفال الأبرياء، والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في حال العاجز الذي لا حول له ولا قوة، إلى جانب مشاهد من معاناة المهجرين من بورما... ويدعو الطفل من خلال الأغنية إلى السلام والإخاء وإنقاذ البشرية من الدمار، ثم يدعو الطفل شخصية الرئيس ترامب إلى الإفطار في القدس: «سنفطر في القدس.. عاصمة فلسطين» ويختتم الإعلان بمشهد لمدينة القدس و6 أشخاص في لباس عربي خليجي وقد ولوا وجوههم شطر الأقصى متقدمين نحوه في ثبات. وهذا الإعلان يفرض على المحلل النظر إليه من ثلاث زوايا متداخلة؛ من زاوية فنية، بحكم أنه فيديو كليب فيه غناء وتمثيل ورؤية فنية وإخراجية، ومن زاوية تجارية بحكم كونه يسعى إلى التسويق إلى العلامة التجارية التي ترعى هذا الإعلان، وطبعا من زاوية سياسية بحكم أنه تطرق إلى أم القضايا العربية، إلى قضية بقامة قرن، قضية تعيش الآن وهنا أسوأ حالاتها، فهل تكامل الفني مع التجاري والسياسي؟ أم أنها تنافرت حتى تناثرت كما هو حال الحل السلمي في فلسطين؟ ولقد حظي البعد السياسي لهذا الفيديو كليب بأكثر التعليقات والتصريحات، حتى أدى الأمر إلى إيقاف بثه لما قد يترتب عنه من استتباعات لا تحمد عقباها. فقد جاء هذا الإعلان الذي اتخذ من معاناة أطفال فلسطين موضوعا له في الذكرى المئوية لوعد بلفور والذكرى السبعين للنكبة وأياما قليلة بعد نقل السفارة الأمريكية إلى القدس باعتبارها عاصمة لدولة الاحتلال، وما تبعه من مواجهات خلال مسيرات العودة السلمية أدت إلى استشهاد نحو 90 فلسطينيا (منذ 30 مارس)، برصاص قوات الاحتلال. قد يحمل الإعلان بعض الإيجابية والأمل، خاصة أنه جاء على لسان الأطفال، إذ من الجيد أن نستمع إلى صوت الأطفال على حد تعبير بعض السياسين، لكن الإعلان صور قادة الغرب «متحكمين في العالم» يتوسل إليهم الطفل العربي الفلسطيني الذي لم يتوسل في الواقع إلا لقادته وقضيته العادلة، واسألوا الطفلة عهد التميمي القابعة في سجون الاحتلال إن كنتم لا تعلمون. ولئن كان في قول الطفل «سنفطر في القدس عاصمة فلسطين»، إشارة إلى رفض قرار الرئيس الأمريكي نقل سفارة بلاده إلى القدس والاعتراف بها عاصمة لدولة الاحتلال، فإن نبرة الخضوع والإذلال خصوصا مع عبارة«سيدي الرئيس» لم يتقبلها الشارع الفلسطيني ولا العربي لبعض نخوة لا تزال كامنة فيه. أما فنيا، فإن الدهشة تشدنا من شدة الشبه بين الشخصيات التي تمثل قادة البلدان الغربية، لكن سرعان ما يزول الانبهار بسبب الكلمات الركيكة في مقاطع كثيرة، غير المتناسقة مع اللحن في مواطن أخرى. وأما تجاريا، فلا شيء يبرر استغلال دماء ودموع ومعاناة السوريين والفلسطينيين والبورميين في تسويق العلامة التجارية، تحت عنوان الرسالة الإنسانية، بل قد يكون ذلك دليل ضعف فني؛ لأن معاناة الأمم ليست سلعة للعبث والبيع والشراء. إن مثل هذا العمل يؤكد تداخل ثالوث الرعب؛ المال والإعلام والسياسة، نعم حين يتحكم التاجر في السلعة الفنية بقوة ماله فإن القيمة الإبداعية تنحدر إلى أدناها. وحين يتلاعب السياسي بقوة الأيديولوجيا يغدو المال أداة تبرر الغاية فيها الوسيلة. وحين ينزلق الفني الإعلامي في لعبة القاذورات المالية والسياسية فعلى الفن السلام ولو كانت الغاية منه نشد السلام. فهل سنفطر حقا في القدس بمثل هذه الأعمال الفنية بعد صيام طويل؟؟
مشاركة :