"أشعر أن العود يعبر عن لهجة النوبة، لقد عزفت للناس في قريتي وكانوا مفتونين، ولكن أنا الآن موسيقي نوبي أعزف للعالم". هكذا أجاب الموسيقار حمزة علاء الدين بعفوية عندما سُئل عن العود عام 1996. صنفته نيويورك تايمز من أعظم العازفين على آلة العود. أما لوس أنجلوس تايمز فلقبته بـ "والد الموسيقى النوبية" الذي ساعد على نشر ثقافة وطنه في العالم. حين يعزف، يخلق حالة من الانسجام التام تتأرجح بين أطوار الروح والحالة المزاجية فتتمايل أوتار العود مع نبرات صوته الدافئ. أبدع حمزة نمطاً فريداً يتمازج بين السلالم الموسيقية الخمس للغناء النوبي، والموسيقى الشرقيّة ذات السلم السباعي. يحاول الموسيقار الأمريكي مايكي هارت أن يصف حمزة: ذو وجه أسود يتوهج بالحزن، تغطي جسده عباءة بيضاء، وعمامة تحوم حول رأسه. كان يلقبه أهل قريته بـ "حمزة آل فقير" نسبة لاسم عائلته. في 22 مايو 2006، صعدت روح ملك الغناء النوبي إلى الملأ الأعلى، إثر مضاعفات عملية المرارة، عن 76 عاماً، متوسداً ثرى تلال ضاحية نافاتو الواقعة في سان فرانسيسكو. "تمنى حمزة أن يعود طفلاً طروباً لعوباً، لا يفكر في الحزن إلا هنيهة، يناغي كواكب الفضاء ويداعب بصوته خرير الماء في النيل". كان هذا مُبْتَغًى حمزة قبل أن يغيبه الموت في مستشفى بيركلي، حسبما يوضح الموسيقار كرم مراد، ابن شقيقته. في 10 يوليو 1929، ولد حمزة الدين في توشكا. منذ نعومة أظافره، تركه والده يهتم بالأراضي الزراعية، لانشغال أبيه بالعمل في السفارة السويسرية في القاهرة. مع إشراقة الشمس، كان يصعد للجبل يزقزق بصوت يدوي في أرجاء العالم، مشكلاً سيمفونية مزدوجة مع تغاريد الطيور. كأنه يرسل رسالة محبة مع طيور السلام، يقول كرم. لم يجد في مدينته الهادئة آلة يعزف عليها، فانتزع الأعواد وراح يعزف عليها أحزان قريته. لم يكن يحب والد حمزة اهتمامه بالفن، خوفاً على مستقبله، لذلك أرسله ليدرس الهندسة الكهربائية في معهد دون بوسكو الفني الإيطالي، بالقاهرة. قبل أن يرحل للقاهرة، تنزه الرجل الوادع بين ربوع مدينته يتغزل في أوجه القرية. كانت أول آلة موسيقية يسمعها في القاهرة، آلة صافرات القطار. عام 1934، سمع صوت أم كلثوم من مذياع قابع في زاوية مقهى في حي المنيرة. لم تكن الموسيقى بالنسبة لحمزة شيئاً مألوفاً، بحسب الجارديان. حين أتم دراسته التعليمية، عام 1948، ظفر حمزة بوظيفة في السكة الحديد، متلقياً راتباً زهيداً، لذلك ذهب للعمل في دكان جميل جورج لصناعة وبيع العود، حتى يتعرف على كيفية العزف ويتمكن من شراء عود. يحكي لنا الموسيقار كرم مراد.أقوال جاهزة شاركغردتمنى حمزة أن يعود طفلاً طروباً لعوباً، لا يفكر في الحزن إلا هنيهة، يناغي كواكب الفضاء ويداعب بصوته خرير الماء في النيل شاركغردموسيقاه يعتبرها الغربيون موسيقى روحية تهذب النفس وتسمو بالعواطف بقدر ما تقوم به الحضارة المادية من توفير أسباب السعادة للإنسان عزم حمزة على دراسة الموسيقى في معهد إبراهيم شفيق للموسيقى العربية وفي معهد الملك فؤاد للموسيقى. تعرف حمزة على الشاعر محي الدين شريف الذي كَتَبَ غَالِبِيَّة الأغاني النوبية في ألبوماته. وقتئذ، كون حمزة فرقة موسيقية وبدأ يشارك في الحفلات ومراسم الزواج ليحصل على نقود، يقول كرم. حينما ذهب حمزة إلى الإذاعة المصرية، نشأ صدام مع الموسيقار محمد الشجاعي، لامتناع الأخير عن تقديم حمزة أغاني نوبية. اقترح الشجاعي عليه أن ينشد موشحات دينية. رفض حمزة الفكرة، راحلاً إلى السودان، الذي سانده في مشواره الفني، وأصبح مستشاراً للإذاعة السودانية. جاءت بعثة إيطالية إلى السودان لدراسة تاريخ الفن السوداني. رافق حمزة البعثة لمعرفته باللغة الإيطالية. عقب ذلك، تواصل حمزة مع معهد ليوناردو دافنشي بالقاهرة، ليحصل على منحة إيطالية للالتحاق بأكاديمية سانتا سيسيليا في روما لدراسة الموسيقى الغربية الكلاسيكية. بحسب صحيفة الجارديان، أثناء إقامة حمزة في روما، التقى الطالب الأمريكي Geno Foreman، الذي مرر مقطعاً مسجلاً من موسيقى حمزة إلى صديقه Joan Baez. في أكتوبر 1962، انتقل حمزة لنيويورك، وأصبح معلماً للموسيقيين. استُخدمت موسيقاه في الموسيقى التصويرية للقطات راقصة أدتها فرقة الباليه أوبرا باريس، والباليه في سان فرانسيسكو. قام بتأليف موسيقى مسرحية الفرس، التي أطلقها بيتر سيلرز في مهرجان سالزبورغ. أكمل القراءة عام 1964، كان أول لقاء يجمع حمزة الموسيقار الشرقي والجمهور الأمريكي الغربي. جلس حمزة على كرسيه يتأبط العود أمام نحو 30 ألف مستمع ليغني "دسي براما". أغمض عينيه مخفياً رجفة تسري في جسده وجال بصوته المتهدج بإيقاعات العود في مهرجان نيوبورت للفنون. حينذاك، ذاع صيته وعرضت عليه شركة "Vanguard Records" أن تنتج له أول ألبوم "موسيقى النوبة". كان حمزة علاء الدين يتعجب من الحب الذي يغمر قلوب الجمهور إثر مناجاته لأهل النوبة في أغانيه. امتلك حمزة مهارة فن تدريس علم الأعراق في جامعة أوهايو وجامعة واشنطن وجامعة تكساس. عام 1980، حصل على منحة من مؤسسة اليابان لإنجاز دراسة مقارنة بين العود العربي والبيوا. ظل قابعاً في طوكيو حتى منتصف التسعينيات. حين ذهب إلى اليابان، تنازل عن لحيته المختلطة باللونين الأسود والأبيض، تماشيا مع تقاليد الساموراي. تزوج فتاة يابانية تدعى "نبرا"، أي "الذهب الخام". موسيقاه يعتبرها الغربيون موسيقى روحية تهذب النفس وتسمو بالعواطف بقدر ما تقوم به الحضارة المادية من توفير أسباب السعادة للإنسان. جميع أغاني حمزة تم تلحينها بعود واحد ظل يرافقه طوال حياته. كان عوداً يبدو غريباً، إذ اعتبره البعض عوداً أثرياً. صنع العود في سوريا في ثمانينيات القرن الـ 19، وحصل عليه عبر مقايضة بحفل غنائي في معرض "مكابي" للجيتار في سانتا مونيكا مقابل 100 دولار. المقامات الشرقية كانت منحوتة على دائرة "شمسية العود"، التي صُنعت من العاج الناصع البياض. طعمت أطراف العود بالعاج وقطع الأبنوس الأسود، أما الأوتار المزدوجة الستة فكانت ترقد في سلام موسيقي. يقطف حمزة النغمات على العود عبر "ريشة صقر"، حين يقبل على العزف بعضلاته المتكلسة كان ينظف أصابعه بقطعة قماش غمست أطرافها في "السبيرتو"، ويمررها على أوتار العود، معللاً ذلك أن أصابع المرء تترك إفرازات دهنية تؤثر على نقاء الصوت. يعتبر حمزة علاء الدين أول عربي يغني باللغة النوبية في اليوم العالمي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة. في البداية، حاول أن يمنعه القائمون على الحفل بذريعة أن الغناء للموسيقى الكلاسيكية. تملك حمزة الغضب قائلاً: الكلاسيكية لا تمثل الموسيقى الغربية، إن كان المعيار بالقدم فما أقدمه هو نتاج أرث حضاري عمره آلاف السنين. أثناء تصفح حمزة جريدة أخبار اليوم في الطائرة المتجهة إلى أمريكا، قرأ قصيدة "لو جيت في يوم أرسمك" لشاعر الفلاحين سليمان الغريب، يقول كرم. رأي أن كلمات القصيدة تمثله، لذلك قرر أن يلحنها ويسجلها في أمريكا. حدث ذلك دون أن يعرف سليمان الغريب، وعندما عاد إلى مصر أعطاه نقوداً مقابل القصيدة. يقول مايكي هارت إن حمزة علمه كيف يغازل آلة الطار خلال رحلة دامت 6 سنوات، مشيراً إلى أن موسيقاه تخلق حالة من التنويم المغناطيسي. حمزة علاء الدين كان مشاركاً في حفلة على سفح أهرامات الجيزة في مصر أثناء الكسوف الكلي للشمس في سبتمبر 1978. قام حمزة بتأليف الموسيقى التصويرية لأفلام عديدة عرضت في هوليوود: The Black Stallion و Passion in the Desert. عرض حمزة على الشاعر بشير عياد، سكرتير التحرير في مجلة الكاريكاتير، أن يكتب أغنية "ماليش عنوان" التي تحكي قصة وطنه الضائع بكلمات شجية بليغة تبكينا وتنهض هممنا. أغنية "يا عرافة" تقص حياته المزرية. كتبها الشاعر السوداني إسماعيل حسن، محاولاً الحصول على جواب صريح من العرافة. إذ يمكن بمقدورها أن تكشف له علم الغيب وتشفيه من سهر الليل والويل المحمول على كتفه. سجل حمزة بالعود لحن أغنية "فكروني"، التي لم يستطع محمد عبدالوهاب عزفها بالعود، بذريعة أن العود لم يقدر على ذلك. كان لحن عبدالوهاب بالقيثار مصدر إزعاج لحمزة لأنه يهين العود، حسبما يقول ابن شقيقة حمزة. عقب وفاة الموسيقار محمد القصبجي، عام 1966، عرض أحد المقربين من أم كلثوم أن يعزف لها كبديل منه، لكنه رفض، قائلاً: "الشيء اللي يروح مني زمان، مرجعش له مرة أخرى في المستقبل". يحكي كرم أنه كان يجلس في "كمبوشة المسرح" ليكون على مقربة من صوتها الدفين بدون تأثيرات موجية. ذات يوم، اصطحب حمزة كرم مراد إلى متجر جميل جورج، ليشتري له عوداً. وهو يخطو أولى خطواته تذكر حمزة حينما كان يعمل في المتجر صبياً، قال: أنت حظك حلو لقيت اللي يشتري ليك العود، أنا اشتغلت بثمنه. في عام 1965، وصل حمزة إلى النوبة، باحثاً عن أهل قريته بخطوات متمهلة. لم يستطع مشاهدة البيوت المتراصة المزخرفة، التي غمرتها مياه بحيرة ناصر عقب تشييد السد العالي 1960. عرضت شركة "Nonesuch Records" إنتاج ألبوم غنائي. حينها فكر أن يصدح بكلمات الجزع وينتج ألبوماً باللغة النوبية يقص فيه للعالم ذكرياته مع الساقية والقرية. أصدر ألبوم Escalay عام 1971، ونسج كلماته على صرير صوت الساقية في دوراتها المتعاقبة ليستسقي الظمأ المتعطش في خياله. إسكاليه كلمة نوبية، تعني الساقية. في زيارة للسودان، تحدث عليّ الجفري عن الموسيقار حمزة قائلاً: إذا تناول العود أصبح زرياب عصره. حين كان الجفري يلقي محاضرة دينية في جامعة سانتا كلارا، أبلغه رجل أنه أسلم بسبب حفلات حمزة لأنه كان يغذي شيئاً روحياً بداخله. يقول الجفري: كان حمزة يردد قول "لا إله إلا الله" أثناء العزف، فيردد الجمهور خلفه في سكينة. جذبت موسيقاه انتباه المغني الشعبي جوان بايز، والرباعية الكلاسيكية كرونوس وفرقة الروك جريتفول ميت. صدر آخر ألبوماته "A Wish" عام 1999. زوجته نبرا تقول إنه استكمل تسجيل ألبوم جديد ولكنه لم يُنشر حتى الآن. اقرأ أيضاًمحاولات عربية لإحياء ثقافة الجاز... مع القليل من نينا سيمون وأرمسترونغناس الغيوان المغربية أو "رولينغ ستونز أفريقيا" كما سمّاهم مارتن سكورسيزيجمالات شيحة: الفلاحة الشرقاوية التي دلعتنا على ورق الفلالطنبورة: غناءٌ يملأ الرأس ورقصٌ يسلطن قعدة الصحبجيةقصة حياة بي كيدودي الملهمة: ملكة الطرب التي ظلّت تقرع الطبول الأفريقية حتى آخر نَفَس إبراهيم عيد صحافي مصري حاصل على درجة البكالوريوس في الإعلام من جامعة القاهرة وعمل في مواقع مصرية مختلفة. كلمات مفتاحية العود الموسيقى النوبية موسيقى التعليقات
مشاركة :