ليس هناك أفضل من اختيار مجريات قضية تحقيق بوليسي لنسج رواية تلفزيونية جاذبة. كل تاريخ التلفزيون العالمي عرف في الجزء الأكبر منه اعتماداً على المسلسلات البوليسية للوصول إلى نسب متابعة قوية. فمسألة القتل مادة لا تموت في مجال الفرجة. كما أنها تشكل مادة درامية في حد ذاتها، لا تُضاهى عندما تكون فقط وسيلة ناجحة لما يمَكّنُها من معين حكايات أفراد معينين وقصص أمكنة ومجتمعات مع حيثيات خاصة بإمكانات التنويع في المواقف والقصص الفرعية. والحلقات الأولى من المسلسل المغربي «الوجه الآخر» للمخرج ياسين فنان، اعتمدت على هذا المعطى منذ لحظات البداية في تمرير فقراته التشويقية. فالمشهد الافتتاحي يظهر جثة رئيس تحرير صحيفة («إدريس»)، وأداة القتل التي هي سكين وُجدَت في يد صحافية زميلة وزوجته في الوقت ذاته. وعلى طريقة السلسلة الأميركية مع بعض التحوير اللازم، ثمة معطيات أولى تخلق مفتتح أسئلة حقيقية عن جريمة قتل من تحرٍّ عن دوافع وبحث عن رفع اللبس إن كان هناك لبس وتشكيك. لكن الـــمسلسل في حد ذاته هو هذا الانتشار للغموض وتتبع مسارات انقشاعه عبر الشخوص والأحداث المختلقة. بين من ينحاز نحو البراءة ومن يخدمه ثبوت التهمة. تدور القصة في مدينة الدار البيضاء مثل معظم المسلسلات الدرامية المغربية، وذلك لما تمنحه من فضاءات مدينية حديثة مناسبة لخصائص الدراما الحضرية في شكلها العصري. وقد ركز عليها المخرج من جهة كونها مركزاً مالياً وإدارياً ومميزة بالعمارات العالية والأضواء والصخب. وقدم لها صوراً بريدية جميلة حين تعمل كرابط بين الفقرات السردية، فتظهر بشخصية الحاضرة الغول التي تلعب دوراً حقيقياً في مصائر ساكنتها. ولا نستبعد تقليداً محموداً في الأمر عما هو مألوف في الدراما عالمياً. في هذه الأجواء المدينية إذاً، يتابع المشاهد مصير البطلة المتهمة بارتكاب الجريمة («أسماء»)، والتي فقدت الرغبة في الكلام بعد الحادثة. وتمت الاستعانة بطبيب نفسي مختص كي يستخلص من ذاكراتها ما يسعف في معرفة ما جرى حتى وقعت الجريمة، فيحدث انقلاب في التسلسل الدرامي لنغوص في دراما رومانسية عاطفية عن علاقة حب. وهكذا بعد لطم عين المتفرج بإثارة «دامية»، تُصار الوقائع وتُوجه عن ســـبق رصد وترصد جهة الإثارة الحكائية «الوردية». طبعاً من دون إغـــفال الذهاب والإياب ما بين الحاضر والماضي عبر آلية الــفلاش باك. ويستتبع هذا التنويع الرئيسي تداخل مرغوب فيه بين الشخصيات وأقدارها. الحلقات الأولى التي تعرضها القناة الأولى المغربية كل مساء في رمضان، تظهر عملاً يحمل الممثلون الكثير من أعبائه المشهدية في شكل خاص، ويقومون بجهود حقيقية مضاعفة ويمنحون لأدوارهم الصدقية المطلوبة، خصوصاً على مستوى مَغْربة الأحداث بلغة قريبة من المعيش وبوصفات تقمصية تأخذ من الواقع كل مقومات خلاصها الفني إزاء جمهورها المحلي. ففاطمة الزهراء قنبوع في دور «أسماء» الصحافية ومحسن مالزي في دور القتيل والمخضرم عبد الإله عاجل وعادل أبا تراب في دور رجال الشرطة وطارق البخاري في دور رئيس التحرير الجديد كشخصية مضادة، هؤلاء مثلاً حاضرون بالفعل في الجو العام. وهو ما يعوض الكثير من التفاصيل الصغيرة التي تكسر هنا وهناك تسلسلاً سلساً لحيوات الشخوص كما تخيلتهم كاتبة القصة والسيناريو والحوار بشرى بلواد المتخصصة في كتابة كهذه لأن الهفوات موجودة حقيقة، ولا يمكن إلا ملاحظتها على شكل اختلالات في الحرص على التوافق والتناسب ما بين ما يعرض على الشاشة في اللقطات مع المراد في الكتابة بما أن عدو الدراما هو السقوط في التناقضات أو الأخطاء. «الوجه الآخر» مسلسل درامي جديد يزيد من الحضور الفعلي لدراما مغربية صارت حقيقة تلفزيونية خالصة، وشيدت لها وجوداً في البرمجة يصعب أن يزول، ما دام هناك إنتاج متواتر وطلب عليها. دراما لها لغتها كما تستعين باستعارات من الدراما المشرقية والغربية.
مشاركة :