فيليب روث: إنها الثورة المضادة

  • 5/24/2018
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

ترجمة واعداد – أنديرا مطر | قبل أيام رحل الروائي الاميركي فيليب روث (1933 ــ 2018) عن خمسة وثمانين عاما جرّاء فشل في القلب. أصدر روث 24 رواية أسهمت في تشكيل الوعي الأدبي الأميركي في النصف الثاني من القرن العشرين. الا انه هجر الكتابة قبل سنوات وكان مقلا في اطلالاته الإعلامية. وقبل أشهر منح روث جريدة لوموند الفرنسية مقابلة بمناسبة اصدار لا بلياد الفرنسية مجلد «روايات وقصص قصيرة لفيليب روث». هنا مقتطفات من المقابلة. في صالونه بالجهة الغربية العليا في مانهاتن، الحي الأشهر في نيويورك، جلسنا حول طاولة كانت في ما مضى فائقة الترتيب، لكن الأوراق مكدسة عليها الآن. فمنذ اعتزاله الكتابة تسللت الفوضى الى حياة فيليب روث. هذا هو التغيير الوحيد الملحوظ. كل شيء آخر لا يزال على حاله: صور الرسام الكاريكاتيري فيليب غوستون في الرواق، والمقعد الذي كان يقف قبالته أثناء الكتابة، بسبب معاناته من آلام ظهره المزمنة وأشياء آخرى. منذ عام 1959، تاريخ صدور «وداعا كولومبوس»، نشر فيليب روث كتاباً كل عامين تقريبا. حالياً، هو واحد من آخر «الكتّاب المطلقين» وفق تعبير فلوبير: النموذج الأخير للروائيين المولودين قبل سيطرة التلفزيون، والذي نظّم الادب مخيلته وتفكيره بالكامل. في أوائل التسعينات شرع روث في كتابة سلسلة تاريخية محورها اميركا، ختمها بكتاب «مؤامرة ضد اميركا». حقق بفضل هذه السلسلة انتشاراً وشهرة عالمييين، على الرغم من اصداره مجموعة روايات مهمة منذ «الكاتب الشبح» و«عربدة براغ» و«سخط». وكانت روايته «حياتي رجلا» (1974) أولى كتب روث التي يسرد فيها على نحو صاعق يوميات فظة عن زواجه الكارثي في مطلع الستينات. الزواج المرعب والصمت كيف يمضي كاتب شديد الغزارة ايامه بعد توقفه عن الكتابة؟ – شكلت الكتابة محور وجودي على مدى أكثر من نصف قرن. ورغم أنني أحياناً افتقر إلى الانضباط، فإنني اخترت التوقف عن الكتابة في الوقت الملائم. واحدة من الروايات الأربع التي نشرتها «لا بلياد» هي «حياتي رجلا»، وتتناول تجاذبا عنيفا بين رجل وامرأة، وصراعا داخليا يعيشه الراوي في محاولة منه لفهم وقوعه في فخ زواج جهنمي. هل تعتبره الكتاب الأول الذي يعبر صراحة عن الروابط بين المتخيل والسيرة الذاتية؟ – «حياتي رجلا» مرتكز على تجربة شخصية هي زواجي الأول الذي اتضح أنه تجربة صادمة، مروعة، وكريهة. في الواقع أنا نفسي لم استوعب حجم الفخ الذي وقعت فيه الا في وقت متأخر جدا، في العام الماضي، عندما، اخبرتني زوجتي بعد محاولة قتل نفسها انها سافرت سراً قبل ثلاث سنوات إلى هارلم لشراء قارورة بول من امرأة حامل وأخذته الى المختبر، من أجل إقناعي بأنها كانت تنتظر طفلاً مني، وبالتالي إقناعي بالزواج بها. في ذلك الوقت، أذهلني اعترافها بالخيانة (الغدر) الذي هو في صميم «حياتي رجلا»، ولبثت صامتا، وأعتقد أنه بعد انفصالنا في عام 1962، بقيت في حالة الكتمان هذه طوال السنوات الخمس اللاحقة. كنت قد نشرت كتابين في غضون ثلاث سنوات «وداعا كولومبوس»، (1959) و«دعه يجري» (1962) وانتقلت إلى نيويورك، استقررت في شقة بالايجار ولم استطع الكتابة. قد تظن أن لا شيء في حياتي سيقودني الى الصمت. فأنا انتمي الى الطبقة الوسطى اليهودية في نيوجرسي. ترعرعت في حي هادئ وراق جداً في نيوآرك، حيث تسود الطمأنينة. كان والداي نزيهين جدا، وكذلك أصدقائي المقربون. قرأت بطبيعة الحال الكثير من الكتب عن الخيانة والاختلال في العلاقات، ولكني لم اواجههما قط. الصعوبة هي الكتابة هل بناء الكتاب، القائم على قصص خيالية متراصفة، هو نتيجة لهذه الصعوبات؟ – نعم، الكتابة كانت مؤلمة جدا، وليس بمعنى أن الكتابة المتخيلة دائما مؤلمة، ولكن لأنني لم استطع ان اعثر على قصة قوية بما فيه الكفاية تحتوي ما عشته بطريقة موثوقة ومرضية. راكمت البدايات الخطأ بصيغ مختلفة، حتى فهمت أن هذه الصعوبات نفسها يجب أن تكون احد موضوعات الكتاب. في الرواية، يصبح على الراوي فهمها ووصفها. في سياق المناقشات العديدة التي أجراها مع محلله النفسي حول نرجسيته المفترضة، يقول الراوي- الكاتب في «حياتي رجلا»: الـ«أنا» بالنسبة إلى الروائي عموما هي كجسد رسام البورتيريه الخاص: هو لا ينظر في المرآة لأنه يصعق بما يرى، نجاحه في وصف نفسه يعتمد على قدرته على الانفصال، وقدرته على تفكيك نرجسيته». – نعم. بالطبع الأنا ليست دائما الموضوع. ولكن إذا كان ما تكتبه يستند إلى تجربة، فإنك بطريقة أو بأخرى ستتكور على نفسك. والمشكلة تكمن في أن الإغراء قوي جدا لوصف نفسك كضحية ساذجة لكارثة خارجية. كانت هذه احدى معوقاتي في كتابة «حياتي رجلا» في كتابتها الأولى، لم يتوقف الراوي عن التحسر على قدره. ولكن إذا اكتفيت بتصوير نفسك كشخص بريء ساخط على ما انت فيه في الواقع، في كتاب، فلن يكون لك قصة ولن يكون بمقدورك روايتها. لكي تجعل الامور مثيرة للاهتمام، ينبغي أن تتلبس شخصية راسكولنيكوف (بطل دوستويفسكي في «الجريمة والعقاب»). الصداقة والتحليل النفسي هذه السنوات الخمس من الصمت والصراع مع الذات كانت أيضا سنوات من سفر التكوين، صنعت منك الكاتب الذي صرته. بالتوازي مع كتاب «حياتي رجلا» الجدي جدا، كتبت أولى رواياتك المذهلة والساخرة «شكوى بورتنوي» وحققت نجاحا باهرا في ذلك الوقت. – الحيوية والحرية في «بورتنوي» اراحتني من جدية «حياتي رجلا». عند وصولي إلى نيويورك، بعد انفصالي عن زوجتي، التقيت مجموعة صغيرة من اليهود الانقياء، اكاديميين أو فنانين في معظمهم. كنا نتعشى معاً بشكل شبه منتظم، وكانت فرصة لسرد بعض القصص. كانت هذه القصص مسلية وذكية وتحررية، تبادلناها في جو من الصداقة الصاخبة التي لم أعرفها منذ مراهقتي. وثمة عامل آخر هو تخطي الرقابة الذي منحتني اياه جلسات التحليل النفسي التي خضعت لها منذ نهاية زواجي. من ناحية أخرى، كانت الستينات مسرحا دائما في شوارع نيويورك استمتعت به كثيرا وكان له أيضا أثر تحرري. كل هذا اختلط ليغذي في داخلي حرية التعبير والخيال المتحرر من المحرمات. وبدأت أتساءل: لماذا لا يستخدم هذا في كتاب؟ لماذا لا أكون مسلياً في كتاب؟ كنت أعرف مسبقا كيف أتحدث بحرية، واتحدث بحرية عن الجنس، بالطبع. المستجد هو أن تفعل ذلك في كتاب. كنت مقتنعا حتى ذلك الحين أن الرواية يجب أن تكون مادة «كاملة»، مع بداية، منتصف، ونهاية. كان لدي نموذجان رائعان: فلوبير في مدام بوفاري وهنري جيمس. اعطتني دورات التحليل النفسي تقنية التداعي الحر، الشكل المثالي لرواية يمكن للمرء أن يقول فيها أي شيء من دون الاهتمام بالملاءمة الشكلية. شابة وخنازير في براغ للهروب غيرت حياتك وغادرت نيويورك. في ذلك الوقت بدأت تزور براغ؟ – كانت براغ بالنسبة لي سبيلا للخروج من الوسط الادبي النيويوركي بزيفه وحماقاته العقيمة. ذهبت إلى براغ في إجازة للمرة الاولى في عام 1972. فور وصولي توجهت برفقة صديقة الى دار النشر حيث لقينا ترحيبا حاراً. ثم اقترحت احدى الشابات هناك، والتي تتحدث الإنكليزية بطلاقة، أن نتناول الغداء معا. وما ان وصلنا الى المطعم، حتى قالت لي «كل هؤلاء الذين قابلتهم في الدار هم خنازير». فكرتُ في الحال «عظيم! لقد جئتُ الى المكان الصحيح». لم يعد الامر يتعلق بي او بشهرة فاضحة وانما بنظام شمولي، عالم لا أعرف شيئا عنه. أعطتني هذه الشابة أسماء مترجمي كتبي الذين وضعوني في الأجواء هناك. في وقت لاحق، نسجت علاقات مع الفنانين التشيكيين والسينمائيين الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة، مثل ميلوش فورمان وإيفان باسي، وبدأت بزيارة براغ مرة كل سنة. هكذا تعرفت الى الروائيين ميلان كونديرا، إيفان كليما، ولودفيك فاكوليك، والمترجمة ريتا بودينوفا – مليناروفا، التي عينت بعد الحرب الباردة سفيرة في الولايات المتحدة في عهد فاتسلاف هافيل، إضافة الى آخرين سواهم، من صحافيين ومؤرخين وأساتذة. تبرعات أدبية وكان معظمهم من المنشقين، من الذين همشهم النظام وحاصرهم في وظائف مهينة. من نيويورك، انت ساعدتهم ماليا. كيف حدث ذلك؟ – أقنعت خمسة عشر روائيا اميركيا من أصدقائي بالتبرع بمئة دولار شهريا لخمسة عشر كاتباً تشيكيا، وجمعنا 12 ألف دولار سنويا. اكتشفت في نيويورك وكالة سفر غامضة يديرها مجري. مكتبه في فوضى دائمة كأن الشيطان عبث به، أوراق في كل مكان وقطط تتجول في ارجائه. لأن لا أحد يعيره اهتماما تمكن من تحويل الأموال التي أعطيته إياها إلى بنك تشيكي صغير من دون جذب الانتباه. هكذا سارت الامور، كنت اقصد براغ مرة واحدة سنويا من 1972 حتى 1977، السنة التي قبضت الشرطة التشيكية علي، واضطررت إلى مغادرة البلاد على عجل في اليوم التالي. لم أتمكن من العودة حتى عام 1989. لكنني لم أقطع الاتصال بأوروبا الشرقية، وفي العام نفسه، جاءت فكرة ان اصدر لدى دار «بنكون» مجموعة من الكتب بعنوان «كتّاب من أوروبا الأخرى» خلال عشرين سنة نشرت لميلان كونديرا في الولايات المتحدة وكذلك كتاب غير معروفين من مواطني مثل دانيلو كيس، والكاتب البولندي العظيم جيري ويل، والرائع فيتولد غومبروفيتش وبرونو شولتز الذي قرأته بحماسة قبل خمسة عشر عاما. القول الممنوع هو المهم   •هل كان الحوار مع كتاب من أوروبا الشمولية هو مصدر سلسلة الكتب التي تركز على شخصية ناثان زوكرمان؟ >كانت النسخة الأولى من مغامرات زوكرمان مقصورة على كتاب واحد وتنتهي في براغ. وكان الأمر يتعلق بالتناقض في النصف الثاني من القرن العشرين، بين حياة الكاتب في أميركا حيث يمكن أن يقال كل شيء ولكن حيث لا أهمية للاشياء، وطبيعة حياة الكتاب في أوروبا الشرقية، حيث كل شيء مهم، ولكن لهذا السبب على وجه التحديد لا شيء يمكن أن يقال. اتضح أن الكتاب كان مضغوطا جدا الى حد يحبس انفاس القارئ، فكان من الضروري التراجع عن ذلك. عمدت الى تجزئته الى أربعة مجلدات: «الكاتب الشبح»، «زوكرمان محررا»، «درس التشريح»، و«عربدة براغ». •هل تعتبر كتابك «مؤامرة ضد أميركا» استشراف التاريخ؟ >نعم، تماما. هو تاريخ متخيل. ألين فينكيلكروت هو من أعطاني مصطلح «التاريخ البديل» لوصف هذا الكتاب. في الرواية مقطع يتناول انتخابات 1940، يروي أن بضعة جمهوريين في الجناح اليميني للحزب يعتزمون ترشيح الطيار تشارلز ليندبيرغ الى الرئاسة، وهو كان بطلا في ذلك الوقت لاجتيازه الأطلسي بالطائرة كما كان متعاطفاً مع هتلر. كنت قد كتبت في الهامش: ماذا لو فعلوا ذلك؟ ماذا لو تم انتخاب ليندبيرغ رئيسا؟ ماذا كان سيحدث لعائلتي؟ لحيي؟ للبلاد؟ •في الأربعينات، كان شعار «أميركا أولا»، الذي يردده الآن أنصار دونالد ترامب، شعار الانعزاليين، بمن فيهم ليندبيرغ. هل تقول إن «المؤامرة ضد أميركا» استشرفت الواقع الحالي؟ >لا. ليندبيرغ كان يمينيا متطرفا، عنصريا اصيلاً ومؤمناً بتفوق الرجل الابيض، ولكن بالمقارنة مع ترامب، كان أينشتاين. كان ليندبيرغ أيضا بطلا حقيقيا إضافة لكونه مهندسا، رجل رائع حقا ومتميز. ترامب لا أحد. هو مجرد شخص فظ وكريه وجاهل. لذلك لا، أنا لا أرى اي تشابه. إن ما يحدث اليوم في الولايات المتحدة هو في آن معا مأساوي وحزين ومخيف. محزن ان يحدث هذا لأميركا، الغنية بكل إمكاناتها ومخيف بسبب الحروب المحتملة. كيف يمكن للبلد الذي اقترع مرتين لباراك أوباما، المثقف الذكي، والمحترم أن ينتخب نقيضه تماما.. إنها الثورة المضادة. ليندبيرغ كان لديه قناعاته أما ترامب فبلا قناعات. لذلك يمكن توقع أي شيء اليوم.

مشاركة :