فتحت ماريا فلورنسيا هومانو متجرا للملابس في 2016 وهي مقتنعة بأن تاريخ الأرجنتين الطويل من الأزمات الاقتصادية قد انتهى في ظل حكم الرئيس ماوريسيو ماكري الذي يدعم أنشطة الأعمال. غير أنها ستغلق المتجر في وقت لاحق هذا الشهر، إذ تعجز عن دفع الإيجار أو سداد مدفوعات قرض. فالارتفاع الكبير في أسعار الفائدة والهبوط الحاد في قيمة العملة وأد حلمها، وأعاد الأرجنتين مجددا إلى وضع مألوف لتطلب إنقاذا من صندوق النقد الدولي. يأتي قرار هومانو بعد أسابيع فقط من إعلان صادم لماكري في كلمة نقلها التلفزيون في الثامن من مايو أيار، قال فيها إن الأرجنتين ستبدأ محادثات مع صندوق النقد الدولي. ويسعى ماكري للحصول على خط ائتماني بقيمة 19.7 مليار دولار على الأقل لتمويل الحكومة حتى نهاية الفترة الأولى من حكمه في أواخر 2019. وفاجأت تلك الخطوة المستثمرين وأذكت مخاوف بين مواطني الأرجنتين من تكرار حالة الانهيار الاقتصادي التي شهدتها البلاد في 2001-2002. ويلقى الكثيرون باللوم على الإجراءات التقشفية التي فرضها صندوق النقد في تفاقم تلك الأزمة، التي أفقرت الملايين وحولت الأرجنتين إلى بلد منبوذ بعدما تخلفت الحكومة عن سداد ديون قياسية بقيمة 100 مليار دولار. ودفعت عبارة الإنقاذ المحتمل آلاف المواطنين الغاضبين إلى النزول للشوارع هذا الشهر، ورفع بعض المحتجين لافتات مكتوب عليها “كفانا من صندوق النقد الدولي”. ومنذ أشهر قليلة، كان محللون يشيدون بالأرجنتين باعتبارها قصة نجاح بين الأسواق الناشئة. أما الآن فيتوقع بعضهم ركودا. وهبطت شعبية ماكري، ويقول مؤيدوه ومن بينهم مالكة المتجر هومانو إنهم يشعرون بالخداع. وقالت هومانو (46 عاما) التي انتقلت للإقامة مع شقيقتها في الآونة الأخيرة لتوفير الأموال، “أعطيته صوتي. راهنت ووثقت فيه… والآن لا أصدق أحدا”. تفاخر لم يكن من المفترض أن تمضي الأمور على هذا النحو. فقد تولى ماكري، رجل الأعمال البارز، السلطة في انتخابات 2015 متعهدها بإنهاء القيود الرأسمالية ودمج الأرجنتين في الاقتصاد العالمي من جديد. توصل ماكري إلى تسويات مع الدائنين المتبقين للبلاد، وتعهد بالتخلي عن سياسات الإنفاق الكبير التي تبنتها سلفته الشعبوية كريستينا فرنانديز. ونما الاقتصاد وانخفضت البطالة. وفي تفاخر منها، أصدرت الأرجنتين العام الماضي سندات مقومة بالدولار بقيمة 2.75 مليار دولار لأجل 100 عام تهافت عليها المستثمرون. وكانت سياسات ماكري الداعمة للسوق الحرة سببا في تلقيه دعوة في 2017 لزيارة البيت الأبيض والاجتماع مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي أشاد الأسبوع الماضي على تويتر برؤية زعيم الأرجنتين في “تحويل اقتصاد بلاده”. لكن خبراء اقتصاديين يقولون إن ماكري قوض مصداقيته بشدة في ديسمبر كانون الأول، حينما خفضت إدارته معدلات التضخم المستهدفة الصعبة. وأعقب ذلك في يناير كانون الثاني قيام البنك المركزي بخفض أسعار الفائدة لتحفيز النمو، رغم استمرار الارتفاع الكبير في أسعار المستهلكين. ولم يكن رفع أسعار الفائدة الأمريكية في صالحها. فالأرجنتين ترزح تحت ضغط دين خارجي يزيد على 320 مليار دولار، أو 57.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، معظمه مقوم بالدولار. وسارع المستثمرون القلقون إلى التخارج، وتراجعت عملة الأرجنتين البيزو. وباع البنك المركزي عشرة مليارات دولار من احتياطياته في محاولة لدعم البيزو، وهو ما دفع ماكري لطلب المساعدة من صندوق النقد الدولي. وقال ماركوس بينا رئيس الوزراء الأرجنتيني هذا الأسبوع إن تغيير أهداف التضخم “ربما أضر بصورة استقلالية البنك المركزي”. وفي تلك الأثناء، دافع ماكري عن هرولته إلى صندوق النقد الدولي كسبيل لتفادي أزمة مثل تلك الأزمات التي شهدتها البلاد في السابق. وكانت استجابة السوق بشكل عام إيجابية. فبعد أن فقدت العملة ربع قيمتها هذا العام، تماسك البيزو عند نحو 25 بيزو للدولار. لكن التداعيات لا تزال تضر اقتصاد الأرجنتين بشدة. فقد رفع البنك المركزي سعر الفائدة الأساسي إلى 40 في المئة، وهو الأعلى من نوعه في العالم. ورغم ذلك، لا يزال التضخم عند معدل سنوي يقارب 25 في المئة. وتستعد الشركات بالفعل لحماية نفسها. فقد قالت سلسلة متاجر السوبرماركت الفرنسية كارفور، التي توظف 19 ألف شخص في الأرجنتين، الشهر الماضي إنها ستسرح عددا غير محدد من العاملين في إطار “خطة لتفادي أزمة”. وتستعد الشركات الصغيرة أيضا لأسوأ السيناريوهات، حسبما قال إدواردو فرنانديز رئيس رابطة إيه.بي.واي.إم.إي التي تمثل نحو عشرة آلاف شركة صغيرة في أرجاء البلاد. وتقول الرابطة إن عودة الأرجنتين إلى صندوق النقد الدولي تشكل إخفاقا لسياسات ماكري الاقتصادية، التي باتت تعصف الآن بالشركات العائلية الصغيرة. وقال فرنانديز “مع تلك الزيادة في أسعار الفائدة، لا نستطيع طلب ائتمان، إننا في موقف صعب جدا”. وتتوقع شركات استشارية قليلة، من بينها كابيتال إيكونومكس ومقرها لندن، أن تؤدي أسعار الفائدة المرتفعة إلى انزلاق الأرجنتين في براثن ركود هذا العام. الاحتفاظ بالدولارات في المنازل لا تزال هناك تصدعات تظهر على الاقتصاد. فقد انكمشت مبيعات التجزئة ثلاثة في المئة في أبريل نيسان، مع قيام المستهلكين بكبح الإنفاق نظرا لضعف البيزو. وتراجعت ثقة المستهلك 8.5 في المئة في أبريل نيسان عن مارس آذار، وهبطت 13.5 في المئة عن مستواها قبل عام، مسجلة أدنى مستوياتها في أربع سنوات، بحسب مؤشر من جامعة توركواتو دي تيلا في بوينس ايرس. وعاد بعض مواطني الأرجنتين القلقين إلى ممارسة عادة قديمة تتمثل في الاحتفاظ بالدولارات في منازلهم. وهبطت الودائع الدولارية في بنوك الأرجنتين اثنين في المئة في الفترة بين 27 أبريل نيسان و14 مايو أيار، بحسب بيانات رويترز. والحسابات الدولارية تحوط شائع من التضخم في الأرجنتين. لكن الحكومة جمدت تلك الأدوات خلال أزمة 2001-2002، وهو ما اضطر ملايين المدخرين إلى قبول البيزو المنخفض القيمة بدلا من ذلك. لكن فابيان كاستيلو، وهو صاحب مصنع أحذية في بوينس ايرس، يأمل بأن يتعافى البيزو بعض الشيء. فهو لا يزال يكابد بشدة الارتفاع الكبير في تكاليف الإيجارات والمرافق والعمالة والجلود والصمغ. وفي الوقت نفسه، يستغني المستهلكون عن شراء الأشياء الزائدة على احتياجاتهم الأساسية، ومن بينها منتجاته. وقال كاستيلو “أي شخص يبيع العطور أو الملابس أو الأحذية يمر بوقت عصيب حتى يصل لنهاية الشهر”.
مشاركة :