«على خطى المتنبي» كتاب يؤسس لتوثيق حركة المبدع وحركة الإبداع بطريقة (إبداعية) مغايرة؛ طريقة تعتقنا أو تنعتق بنا من رِبقة الدوران في فلك صوت التاريخ البعيد ومصادره، ليس انفكاكًا من هذا التاريخ، ولا انتقاصًا من مصادره، ولكنه عشق المعرفة وفضولها الذي لا يكتفي بالصوت، ولا يبلُّ صداه الحرفُ، ولا يشبع نهمه سوى رأي العين ولمس اليد. وهل يغيب عنا – ولله المثل الأعلى – صوت نبيِّه موسى المملوء قلبه بالإيمان، والقرآن يحكي قوله: «قال رب أرني أنظر إليك». ارتحل المتنبي (الشاعر المبدع) بالأمس البعيد هاربًا من كافور الإخشيدي، وجاء اليوم عاشق للمتنبي ليجدد الرحلة التاريخية قافزًا على حواجز التاريخ العالية، غير آبه بعوائق الجغرافيا ووعثاء السفر. وإذا كان الشاعر القديم سلم بنفسه ووصل إلى حيث يريد أرض العراق تاركًا لنا قصيدته (قصيدة الهروب) التي سجلت الحدث، وأضافت إلى رصيد الإبداع، فإن العاشق الجديد بلغ غايته من استعادة الحدث وإحيائه واستحضاره من جهة، وتأسيس منهج في توثيق التاريخ وتوثيق النصوص من جهة، ليستحيل التوثيق الذي كان آلية محكومة أبدًا بالمصادر التاريخية وأوراقها إبداعًا معاصرًا متحركًا يحيي الإبداع القديم وينفخ فيه الروح من جديد! ما أكثر ما كُتب عن المتنبي إنسانًا وشاعرًا! في القرن الرابع الهجري ألف اللغوي الكبير أبو الفتح عثمان بن جني (ت 392 هـ) الذي كان المتنبي نفسه يرى أنه أعرف بشعره منه، فَسْرَين: فسرًا كبيرًا لديوان المتنبي، وفسرًا صغيرًا لأبيات معانيه. وفي القرن نفسه ظهر أبو العلاء المعري (ت 449هـ) الذي رأى في نفسه – وهو من هو في تراثنا – ذلك الأعمى الذي ذكره المتنبي في بيته المفعم بالزهو والفخر: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي / وأسمعت كلماتي من به صممُ ولم يفلت رهين المحبسين من أسر المتنبي، فقارب سحر بيانه في «اللامع العزيزي» ونُسب إليه معجز أحمد. إن رجلاً كالمتنبي لا بد أن يكثر شانئوه، ومن هؤلاء ابن وكيع التِّنِّيسي (ت 393 هـ) الذي ظلمه عندما ألف «المنصف» للسارق والمسروق منه في إظهار سرقات أبي الطيب المتنبي. وفي القرن العشرين رأينا محمود شاكر الذي كتب كتابًا فيه عنونه باسمه، وجعل له مقدمة ذات خطر، استقلت في ما بعد كتابًا، كما استقلت مقدمة ابن خلدون عن تاريخه. أكثر من ألف سنة مضت تراكمت فيها مئات، وربما آلاف الكتب والبحوث والدراسات والأطروحات، وما زال المتنبي وإبداعه وحياته بحرًا يرده الواردون – على تنوعهم واختلاف مشاربهم – من دون أن ينقصوا من مائه شيئًا. أحدث هؤلاء الواردين كان الدكتور عبدالعزيز المانع أستاذ كرسي دراسات اللغة العربية وآدابها في جامعة الملك سعود في الرياض الذي ألف كتابًا عنونه «على خطى المتنبي: من الفسطاط إلى الكوفة»: وصدر حديثًا جدًا، وتحديدًا العام الماضي (2017). وبالطبع لن يكون المانع آخر الواردين، فسيظل المتنبي وحياته وشعره يشغلون الناس. المتنبي حياةٌ موَّارة بالهمة والرغبة والتوثب والتقلُّب والتقرب من الأمراء والوزراء، وفي الوقت نفسه موارة بالحبس والتضييق والإحباط والهروب. وقد انعكس ذلك كله على شعره الذي كان مرآة صادقة بليغة لكل ذلك الاحتراب النفسي والحياتي. لكن المانع اختار شهورًا أربعة من حياة المتنبي كانت وعاء لرحلة هروب، أعقبت معاناته من مطل كافور الإخشيدي صاحب مصر الذي أخلفه وعده، ثم رصد له العيون وضيَّق عليه حتى كاد يخنقه، فما كان أمامه إلا جنح الليل يستتر تحته ويحتمي به متوجهًا من الفسطاط في مصر إلى الكوفة في العراق، مرورًا بمناطق عدة في سيناء وشبه الجزيرة العربية (مصر والسعودية والأردن والعراق) واختار – أيضًا – أن ينظر إلى تلك الشهور من زاوية التوثيق، توثيق قصة الهروب التي سجلها المتنبي في قصيدته (قصيدة الهروب) فكان كتابه «على خطى المتنبي». إن التوثيق - كما نعلم جميعًا – هو التحقيق، أو هو عموده، حتى إن بعض منظِّري النشر النقدي للنصوص يوحِّد بينهما، ويستبدل بأحدهما الآخر في كلامه. قد يقال إن غرض الكتاب ليس نشر قصيدة الهروب، وإنما تحقيق الحدث نفسه، فالكتاب – إذاً – ينتمي إلى تحقيق التاريخ، لا إلى تحقيق النصوص. وهذا صحيح، لكن من قال إن توثيق الحدث (الخبري) مقطوع الصلة بتوثيق النص (اللغوي). لقد انطلق الكتاب في توثيق الحدث من النَصِّ، ولا شك أن المانع الذي اقتفى أثر الشاعر وسار على خطاه عبر في طريقه إلى الحدث على النص ووثَّقه وحقَّقه. وجاءت عملية توثيق الحدث عملية توثيق وتحقيق مركبة. فإذا كان التحقيق للنص يعني استدعاءه من غياهب التاريخ وإعادة تركيبه اعتمادًا على المصادر (التاريخية) فإن التوثيق للحدث ما اكتفى بالتاريخ ومصادره، بعد أن تبيَّن للمرتحل في رحلة المتنبي أن التاريخ وأوراقه لن تبلَّ صداه ولن تشبع نهمه، فلجأ إلى الجغرافيا يسند بها ذلك التاريخ ويؤيده. ليس المراد بالجغرافيا مجرد رفع الإحداثيات والتقاط الصور، فهذا – وحده - لم يكن كافيًا لإحياء الحدث من جديد، فالدنيا تغيَّرت، ولا بد من المعاينة والمباشرة، لذلك كان لا بد من رحلة (ميدانية) جديدة في القرن الحادي والعشرين تحاكي رحلة القرن الرابع الهجري لتحقيق الطباق بين التاريخ بمصادره، والجغرافيا بإحداثياتها وخرائطها وصورها. إن الباحث المحقق المسكون بروح البحث العلمي في مجال التاريخ، لا يمكنه أن ينخلع من نزعة الشك وهاجس التوثيق، والرغبة في دخول عالم الغيب التاريخي برجاله وإبداعاتهم الخالدة. لقد احتشد الرجل لتلك الورقة المهمة من أوراق التاريخ؛ ورقة هروب المتنبي من كافور مغادرًا الفسطاط إلى العراق، فأعطاها سنين عقله وفكره وجهده، وسخَّر لها الأصدقاء والغرباء، واجتاز حدود السياسة، وتسلَّق تضاريس الجغرافيا مجتازًا الوديان والجبال والصحارى، وواقفًا عند العاديات من مناهل وبرك وعيون وآبار وموارد عيون وبقايا شواهد، واستخدم وسائل المواصلات القديمة من جمل وحصان، كما استخدم السيارة والطائرة، وكانت عينه أبدًا على نَصِّ المبدع وأرض الحدث في الآن نفسه، فأقام أحدهما بالآخر حتى استقام له القصد، ورأى صورة الإبداع، أعني الحدث التاريخي رأي العين، وتمثَّل له المبدع تمثُّلاً لا يحول بينه وبينه حائل. شارك المقال
مشاركة :