برنارد لويس المؤرخ الذي قدّم خبرته لصانع القرار الأميركي

  • 5/26/2018
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

في مقالة نشرتها مجلة «أتلانتيك مَنثلي» الأميركية عام 1990 في عنوان «جذور السخط الإسلامي» يرى المؤرخ البريطاني– الأميركي برنارد لويس (1916 – 2018) أن هذا السخط نابع من شعور الدونيَّة الحضاريّة والهزيمة أمام الغرب المتفوِّق، وأن العداء الذي يكنُّه العرب والمسلمون للغرب وأميركا ناتج «من شعور بالإذلال والإدراك المتنامي بين وارثي حضارة عريقة وفخورة، وطالما كانت مهيمنة، بأنهم سُبِقوا، بل سُحِقوا، من أولئك الذين طالما اعتبروهم مرؤوسيهم». هذه التوصيفات المستمدة من الذخيرة الاستشراقية التي تربَّى عليها برنارد لويس تتكرر في كتاباته اللاحقة عن الأسباب «الفعليّة» التي ستُفضي، من وجهة نظره، إلى مواجهة قريبة بين الغرب، وزعيمته الديموقراطية أميركا، من جهة، والعالمين العربي والإسلامي، المعاديين للحضارة الغربية، المسيحية– اليهودية، ولنموذجه الديموقراطي، من جهة ثانية. لا شك في أن لويس كان بين الأشخاص المؤثّرين في الغرب، لا في أوساط المؤرخين والباحثين في الدراسات الإسلامية فقط، بل بين صانعي السياسات وأصحاب القرار في الولايات المتحدة. إنه واحدٌ ممن كان البيت الأبيض، في فترة إدارة جورج بوش الابن، يستشيرهم ويستأنس بآرائهم بخصوص سياساته الشرق أوسطيّة. وقد كان، بعد انتقاله من بريطانيا إلى أميركا في سبعينات القرن الماضي، تاركاً عمله في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية في جامعة لندن ليعمل أستاذاً في جامعة بْرِنستون، نجماً في أوساط الأكاديميين الذين لا يكتفون بدورهم في عالم البحث والتعليم. فهو، على رغم الإنتاج البحثيّ الضخم الذي أنجزه في الدراسات الإسلامية والعربية، والكتب التي يزيد عددها على ثلاثين، كان ذا صلات قويَّة مع رجال السياسة في الغرب والشرق، كما ربطته علاقات خاصة مع أجيال متعاقبة من السياسيين الإسرائيليين، بدءاً من أبا إيبان وصولاً إلى غولدا مائير وموشيه دايان. لقد كان، على مدار حياته الأكاديمية والعملية، قريباً من دوائر صنع القرار، بطريقة أو أخرى، وكان لآرائه صدىً في هذه الدوائر، خصوصاً في أوساط المحافظين الجدد في أميركا، حتى قبل ظهورهم العلني وسطوع نجمهم في عهد إدارة بوش الابن ونائبه ديك تشيني الذي ربطته بلويس علاقات قوية (وقد كنت قدمت قراءة مفصلة لهذه العلاقات في كتابي «كراهية الإسلام» الصادر عن الدار العربية للعلوم نهاية عام 2016). اتُّهِم لويس، المولود لأب وأم يهوديين بريطانيين، بدفع إدارة جورج بوش الابن إلى الهجوم على العراق عام 2003. وهو، وإن كان ادَّعى معارضته احتلال العراق، فإنه ظلّ واحداً من المؤرخين والأكاديميين الغربيين الذين آمنوا بفكرة التدخل في منطقة الشرق الأوسط للحفاظ على مصالح أميركا والغرب. وقد بدأت رؤيته ومنظوره الإستراتيجي حول العالمين العربي والإسلامي يتشكلان في فترة مبكرة من حياته الأكاديمية والبحثية. ففي الصفحة الأخيرة من كتابه «العرب في التاريخ» The Arabs in History (1950) نقع على الاستنتاج التالي الذي يشكّل بذرة تصوره لعلاقة الشرق والغرب في مرحلة صعود الحضارة الغربية. يقول لويس: «يقف الإسلام اليوم في مواجهة حضارة غريبة تشكل تحدياً للعديد من قيمه الأساسية، كما أنها تمثل إغراءً مُغوياً للعديد من أتباعه. وقد أصبحت المقاومة الآن أكثر قوَّة. فلم يعد الإسلام عقيدة إيمانيّة جديدة، متحمسة ومطواعة طالعة من قلب الجزيرة العربية، بل ديانة قديمة، ذات طبيعة مؤسسية، حوَّلتها قرونٌ من الاستخدام والتقليد إلى أنماطٍ متصلبة من السلوك والعقيدة. لكن إذا كان المعدن صُلباً فإن المطرقة صُلبةٌ أيضاً. ومن هنا فإن التحدي هذه الأيام هو أكثر جذريَّة على نحوٍ لا يضاهى، وأكثر عنفاً وانتشاراً واتّساع مدى. ولا يأتي هذا التحدي من المهزومين، بل من العالم المنتصر. لقد أدى الأثر الذي أحدثه الغرب، بسكك حديده ومطابعه، وطائراته وأفلامه السينمائية، ومصانعه وجامعاته، والمنقبّين عن النفط فيه، وعلماء آثاره، وبنادقه الآلية وأفكاره، إلى تحطيم البنية التقليدية للحياة الاقتصادية، إلى الأبد، بحيث طاولت كلَّ عربي في معاشه اليوميِّ وأوقات راحته، في حياته الخاصة والعامة كذلك، ما جعله في حاجة ماسة إلى إعادة صياغة أشكاله وقوالبه الاجتماعية والسياسيّة والثقافية الموروثة. وسطَ هذه المشكلات التي تأتي بها عمليات إعادة الصياغة، يمكن للشعوب العربية أن تختار بين عدد من المسارات؛ قد يخضعون لواحدة أو لأخرى من نسخ الحضارة الغربية المتنافسة المعروضة عليهم، جاعلين ثقافتهم وهويتهم جزءاً من حضارة أكثر اتساعاً وهيمنةً؛ أو أنهم قد يديرون ظهورهم للغرب وكل أعماله، متعقبين سرابَ العودة إلى المثال الدينيّ المفقود، ليصلوا، بدلاً من ذلك، إلى طبعة جديدة من الاستبداد تستعير من الغرب آليات الاستغلال والقمع، والعدَّة الكلاميَّة الخاصة بالتعصب وعدم التسامح أو قبول الآخر؛ أو أنهم قد ينجحون في النهاية. وفي هذه الحالة فإن التخلص من وصاية الغرب شرطٌ أساسي في تجديد مجتمعهم من الداخل والتعاون مع الغرب، مستفيدين من علمه وأنْسَنَته humanism، لا من حيث المظهر بل في الجوهر، محققين بذلك توازناً متناغماً مع تراثهم». لا يعتقد لويس أنَّ أمام العرب المعاصرين طريقاً سوى التعاون مع الغرب والإقرار بغلبة الحضارة الغربية، وأفول الحضارة العربية الإسلامية. ويمكن القول إن كتاباته التالية لا تشير بأية صورة من الصور أنه غيَّر رأيه، بل إن رؤيته للعالم العربي المعاصر أصبحت أكثر تشككاً في إمكانية خروج العرب من أزمتهم مع أنفسهم ومع العالم. لقد وَسمَ العرب جميعاً بأنهم معادون للحداثة الغربية، يشعرون بالحسد والغيرة القاتلة من تقدُّم الغرب العلمي والحضاري، والرغبة المتأصّلة، لهذا السبب، في تدمير الغرب. كما أنه برَّرَ في كتابيه «الخطأ الذي حصل» (2002) و «أزمة الإسلام» (2003) سلوكَ أميركا تجاه العالمين العربي والإسلامي بعداء العرب والمسلمين للحداثة وعدم قابليتهم للحكم والأخلاق الديموقراطيّين. وفي مقالة نشرها لويس عام 1992 في مجلة السياسة الخارجية الأميركية «الفورين أفيرز» يتنبأ بتفكك دول المنطقة العربية: «هناك إمكانية قد تتسبب بها الأصولية، وهي ما أصبح يدعى «اللبننة». فمعظم دول الشرق الأوسط– ومصر استثناءٌ واضح– حديثة النشأة، وذات تكوين مصطنع، وهي لذلك معرضةٌ [للدخول في الحالة اللبنانية]. فإذا تمَّ إضعاف السلطة المركزية بصورة كافية، فليس هناك مجتمعٌ مدنيٌّ قادر على الحفاظ على الكيان السياسي قائماً، وليس هناك شعورٌ حقيقي بالهوية الوطنية العامة، أو ولاءٌ فعلي للدولة الوطنية. هكذا تتحلل الدولة– كما حدث في لبنان– حيث عمَّت الفوضى ودبَّت الخلافات والعداوات بين الطوائف والعشائر والمناطق والأحزاب المتقاتلة. فإذا ساءت الأمور، وتعثرت الحكومات المركزية وانهارت، فالشيء نفسه يمكن أن يحدث، لا في دول الشرق الأوسط فقط، بل في جمهوريات الاتحاد السوفياتي المستقلة حديثاً أيضاً». فهل كانت هذه هي الوصفة الإستراتيجية التي قدّمها «مؤرخ الإسلام» الشهير للإدارة الأميركية في عهد جورج بوش الابن وعتاة المحافظين الجدد الذين صرَّحوا حينها بأنهم يريدون احتلال المنطقة وتغيير العالمين العربي والإسلامي بالقوة، بل إعادة تقسيم المنطقة بما يتوافق مع الأصول العرقية والقومية، والهُويَّات الطائفية والمذهبية، للشعوب المنضوية في إطار الدول الوطنية التي شكلتها اتفاقيات سايكس- بيكو عام 1916؟ وهل تفسر هذه الرؤية الحروب المتواصلة في مناطق عدة من العالم العربي منذ أحداث الربيع العربي؟ هذه أسئلة مشروعة تتطلب إعادة قراءة كتابات برنارد لويس وحواراته مع الإعلام الأميركي بعد أحداث 11 أيلول. لقد اكتسب الرجل، منذ ذلك الحين، أهمية استثنائية بوصفه الخبير الذي يمد المتشددين في الإدارات الأميركية المتعاقبة بالمعرفة التاريخية حول العالمين العربي والإسلامي!

مشاركة :