نتائج الانتخابات العراقية كانت مفاجئة للجميع بعدما انتجت تطورات مثيرة على مستوى التنافس السياسي بين أحزاب تحتكر إدارة الحكم منذ عام 2005 ، إذ كشفت عن تطور مزاج الناخبين نحو إنتاج خريطة فائزين معقدة تؤشر إلى تأثير شعبي واضح سعت الأحزاب الكبيرة إلى تحجيمه عبر قوانين اقتراع لا تترك أي فجوة أمام الناخب لإحداث تغيير. تراجع نسبة المشاركة في الانتخابات إلى ما دون النصف كانت أحد معالم الانتخابات المثيرة، إذ إنها تؤشر إلى وعي انتخابي احتجاجي عبر أصحابه عن موقفهم السياسي. ويمكن اعتبار نتائج ونسب المشاركة في الانتخابات ناقوس خطر للأحزاب الكبيرة التي درجت على صياغة قوانين اقتراع جديدة تسبق كل عملية انتخابات، فوضعت النتائج وحملة المقاطعة خطوة جديدة تضاف إلى خطوات مدنية وشعبية سابقة نحو إيجاد قانون انتخابي عادل يقوم على دوائر انتخابية مناطقية داخل كل محافظة ويضمن شعور الناخبين في أن مشاركتهم في الانتخاب حاضره فعلاً في قرارات الدولة. فوز الزعيم الشيعي مقتدى الصدر في المرتبة الأولى في الانتخابات بـ(54) مقعداً وهو الرجل المعروف بمشاكسة السلطة وتمرده على الأحزاب الشيعية الكبيرة مفاجأة من العيار الثقيل في بلد دُرج نظامه السياسي والاجتماعي على أن يكون أصحاب السلطة والنفوذ الواسع في الحكومة هم الفائزين دوماً. كما أن فوز قائمة «الفتح» بزعامة هادي العامري في المرتبة الثانية بـ(47) مقعداً، متفوقاً على ائتلاف «النصر» (42) مقعداً بزعامة رئيس الوزراء حيدر العبادي، و «دولة القانون» بـ(25) مقعداً بزعامة نوري المالكي، و «تيار الحكمة الوطني» (19) مقعداً بزعامة عمار الحكيم تحول يستوجب التوقف عند دلالاته. إذ إن تفوق «الفتح» القريب من إيران وهو التحالف الناشئ بعضوية فصائل شيعية مثيرة للجدل لا في الأوساط المحلية بل الإقليمية والدولية يمكن تعليله للوهلة الأولى بالشعبية التي نالتها الفصائل خلال المعارك ضد «داعش»، ولكن أيضاً أن مسار الاحتجاج الشعبي الناقم على السلطة بشقيه المشارك في الاقتراع، والمقاطع ساهمت في تعزيز حضور هذا التحالف. ولعل مصير المالكي من أبرز نتائج انهيار مفهوم الزعامات والكاريزمات في الحسابات الانتخابية، فالمالكي الذي حصل وحده في انتخابات عام 2010 على (624) ألف صوت، وفي 2014 (721) ألف صوت، حصل في الانتخابات الأخيرة على (91) ألف صوت، وبينما حصل إياد علاوي على (46) ألف صوت في الانتخابات الأخيرة، كان حصل على (410) آلاف صوت في انتخابات 2010، و(407) آلاف صوت في 2014. «دماء جديدة... وملل الوجوه القديمة» لا سر في حجم الاستياء الشعبي مما آلت إليه البلاد بعد 13 عاماً من التجارب الانتخابية المنتجة لذات الأحزاب القابضة على السلطة عبر قوانين انتخابات سعت الأحزاب فيها إلى ضمان استمرارها وقطع الطريق أمام ظهور قوى سياسية جديدة. وحتى المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني كان أقل حماسة في التعاطي مع العملية الانتخابية الأخيرة فاعتبر قرار المشاركة في الانتخابات متروكاً للناخب نفسه بعدما كان يدعو في العمليات الانتخابية السابقة إلى المشاركة الفاعلة باعتبارها «واجباً وطنياً وشرعياً»، وموقف السيستاني جاء مرفقاً بانتقاد واضح لقانون الانتخابات موجهاً دعوة إلى المشرعين الجدد بضرورة تغييره على نحو يعكس تمثيلاً حقيقياً للناخبين. وإذا بدت نتائج الانتخابات مفاجئة للجميع لكنها في الواقع عكست أهواء الناخب العراقي الساعي إلى تغيير الأحزاب التقليدية وربما معاقبتها على رغم تراجع نسبة المشاركين، فالناخب العراقي بعد مرحلة ما بعد «داعش» يتطلع للبحث عن دماء جديدة وتحالفات غير مألوفة، ولهذا كان الفوز حليف مقتدى الصدر الذي قرأ بذكاء ومجازفة توجهات الشارع ودخل الانتخابات باستراتيجية وصفها أنصاره قبل خصومه بالانتحار السياسي. قرر الصدر إلغاء اسم كتلته المعروفة باسم «الأحرار» وشكل حركة «استقامة» الجديدة، ومنع جميع وزرائه ونوابه من المشاركة في الانتخابات ليقدم مرشحين جدداً من عمق المجتمع العراقي على اختلاف تكويناته، وتجاوز ذلك إلى التحالف مع الحزب الشيوعي وحركات وشخصيات مدنية وعلمانية لينتج ظاهرة لافتة في صفحات التاريخ السياسي العراقي الحديث. ويبدو أن الصدر كان يحضر لهذا التحالف منذ عام 2015 عندما قرر الانضمام إلى الاحتجاجات الشعبية المدنية في ساحة التحرير وسط بغداد الناقمة على السلطة والداعية لإصلاحات سياسية جذرية كان رئيس الوزراء حيدر العبادي في أحد مراحلها بطلاً في نظر المحتجين بعد إعلانه حزمة إصلاحات سياسية واقتصادية، ولكن اصطدامها بجدار السلطة ومصالح الكتل الكبيرة ومقاعدها البرلمانية الواسعة وضع الحكومة في نظر المحتجين في خانة البرلمان والأحزاب الكبيرة بمسؤوليتها عن الأزمات. ولاحقاً ساهم الصدر في إبقاء صوت التظاهرات مسموعاً وقاد المحتجين في بغداد لاقتحام المنطقة الخضراء في نيسان 2016، وعزز الرجل القادم من النجف مع تاريخه المثير للجدل حضوره في العاصمة التي وضعته في طليعة الفائزين في الانتخابات وانتزع منها ثلث مقاعدها (25 مقعداً)، فالذي يفوز بأصوات العاصمة يفوز في الانتخابات طبقاً لتجارب العمليات الانتخابية السابقة. في المقابل، انخرط تحالف «الفتح» في الانتخابات بصفته تحالفاً جديداً وإن ضم قوى شيعية تقليدية أبرزها منظمة «بدر» بزعامة هادي العامري، ولكن الثوب الجديد الذي ارتدته والشعبية التي نالتها الفصائل في ميدان المعارك كان كافياً لإقناع جمهور شيعي بأحقيته في تمثيلهم بدلاً عن أحزاب وشخصيات شيعية وإن كان بعضها محسوباً على هذا التحالف وأبرزهم نوري المالكي الذي يعتبر الخاسر الأكبر في الانتخابات بعد فقدانه أكثر من ثلثي مقاعد النيابية التي نالها عام 2014 ليحصل على (25) مقعداً بعد أن كان لديه (94) مقعداً. في المشهد السني لا يبدو أن تغييراً كبيراً طرأ على أوزان القوى السياسي الممثلة لمدن نينوى والأنبار وصلاح الدين وبلدات في ديالى وشمال بابل باستثناء خسارة عدد من المقاعد لمصلحة قوى شيعية وكردية قد تؤثر في واقعية تمثل هذه البلدات، ففوز العبادي في المرتبة الأولى في نينوى، وحصول العامري على مقاعد لافتة في صلاح الدين كان على حساب مقاعد أحزاب سنية لم تقنع جمهورها في أحقية تمثيلهم، فنال ائتلاف «الوطنية» بزعامة إياد علاوي ومعه رئيس البرلمان سليم الجبوري وصالح المطلك (21) مقعداً، بينما كان علاوي حصل وحده على (22) مقعداً في الانتخابات السابقة، في حين انتزعت أحزاب سنية متصارعة صغيرة مقاعد متفرقة يصعب الحديث عن إمكان توحيدها في مفاوضات تشكيل الحكومة في بغداد. كردياً، استعاد الحزبان الحاكمان «الاتحاد الوطني الكردستاني» (17 مقعداً)، و «الحزب الديموقراطي الكردستاني» (25 مقعداً) حضورهما في إقليم كردستان المثخن بأزمات سياسية واقتصادية وصراعات شديدة بين أحزابه منذ تنظيم استفتاء الاستقلال في أيلول (سبتمبر) العام الماضي، وبينما تراجعت مقاعد حركة «التغيير» (6 مقاعد) المعروفة بمعارضتها للأحزاب الحاكمة، انتزعت قوى جديد أبرزها «حركة الجيل الجديد» برئاسة رجل الأعمال ساشوار عبد الواحد (4) مقاعد. ماراثون طويل حتى الآن ما زالت النتائج المعلنة أولية، وبانتظار إعلان النتائج النهائية فإن الخيارات ما زالت مفتوحة على تغير تسلسل الكتل الحاصلة على أعلى المقاعد، ولكنها لن تغير من واقع أن لا فائزين حقيقيين في الانتخابات، ويمثل انتصار الصدر في الانتخابات رمزية كبيرة ولكن في حسبة الأرقام ومفاوضات ما بعد الانتخابات قد لا يكون بذلك التأثير. انتشار مقاعد البرلمان على سبعة قوائم انتخابية متقاربة من حيث النتائج محصورة بين (20 إلى 50) مقعداً يمثل تحدياً كبيراً أمام تشكيل الحكومة الجديدة، والمفاوضات في شأنها قد تستغرق أشهراً طويلة ليس بسبب تساوي المقاعد تقريباً بين القوى السياسية فحسب بل لجهة أفكار جديدة تتحدث بجدية عن إمكانية تغيير النظام والأعراف السياسية القائمة على المحاصصة وتقاسم المناصب وتحجيم الدور الخارجي في هندستها وإشراك الجماهير في ذلك عبر تظاهرات واحتجاجات للضغط على الفائزين. ولكن المهمة الأصعب هي اختيار رئيس الوزراء، فالكتل الشيعية الثلاثة «النصر» والصدر و «الفتح» تتقاسم تقريباً المقاعد نفسها، وقد يطالب كل منها بالمنصب الذي يحتاج إلى مواصفات قد لا تتوافر في كثيرين أبرزها التزام الحياد إزاء أزمات إقليمية وتحقيق توازن بين واشنطن وطهران، والأهم من ذلك التواصل مع إرادة جماهير متطلعة إلى تغيير جذري يعكس إرادتها.
مشاركة :