أحمد المديني يروي العلاقة الملتبسة بين السلطة والمجتمع

  • 5/28/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

منذ حوالى نصف قرن، بدأ الكاتب المغربي أحمد المديني مسيرته الكتابية، الطويلة، المتنوّعة، التي تمخّضت عن حصاد وفير في الحقول المعرفية الأدبية المختلفة، فبلغ مجموع مؤلفاته المطبوعة ستين كتاباً، حتى تاريخه، تتوزّع على: خمس عشرة رواية، خمس عشرة مجموعة قصصية، ثلاث مجموعات شعرية، سبعة كتب في أدب السيرة، أربعة كتب في أدب الرحلة، وست عشرة دراسة جامعية ونقدية. وما تزال المسيرة مستمرّة. في روايته الخامسة عشرة والأخيرة «في بلاد نون» (المركز الثقافي العربي)، يقوم المديني برصد طبيعة العلاقة بين الحاكم والرعية في العالم المرجعي الذي تحيل إليه الرواية، وتفكيك آليات ممارسة السلطة في مجتمع سكوني، مغلق، منقطع عن دورة الحياة وحركة الزمن، وتعرية آليات الدفاع التي يلجأ إليها المجتمع في مواجهة السلطة الحاكمة، ويروي عدم التكافؤ بين السلطة والمجتمع ما يجعل الثاني يدور في فلك الأولى ويفشل في التحرّر من قبضتها الحديدية. لعله أراد أن ينعى تجربة الربيع العربي، من خلال العالم المرجعي لروايته. وهو يفعل ذلك في نصٍّ روائي ملتبس تنعدم فيه المسافة بين الواقع والخيال، ما يفسّر تصديره الرواية بالقول: «كل محكي هنا واقعي، كل محكي هنا خيالي». وهو، بذلك، يمارس نوعاً من التقية الروائية، في ظلّ سلطة تمسك بتلابيب الأنشطة الاجتماعية المختلفة، وفي طليعتها الكتابة. تشكّل واقعة استيقاظ بلدة نون، ذات صباح، على جلبة غريبة لم تعرفها من قبل، البداية النصّية للرواية، ونقطة تحوّل وقائعية في مسار الأحداث، التي تتراكم ويتناسل بعضها من بعض حتى تبلغ النهاية المرسومة. وبين البداية والنهاية سلسلة من الوقائع والذكريات والتخيّلات التي يمتزج فيها الواقعي بالسحري، والحقيقي بالخيالي، والعادي بالغرائبي، ما يشكّل فضاء روائيّاً هجيناً، يتّخذه الكاتب مطيّة لتفكيك العلاقة بين السلطة والمجتمع، فيمارس دور الروائي الشاهد على عصره، من جهة، ويتحلّل من المسؤولية المترتّبة على هذه الشهادة، من جهة ثانية. السلك الأطول الذي ينتظم الرواية يعكس العلاقة المتوترة بين السلطة والمجتمع، يتمثّل الطرف الأول منه الجلبة التي أثارتها أعمال الحفر المفاجئة في بلدة نون، دون سابق إنذار، ما يشي بمحاولة السلطة الحاكمة، عبر أدواتها، صرف المجتمع عن همومه الأساسية وإغراقه في القلق على مصيره. ويتمثّل الطرف الأخير منه في تجمّع الناس أمام شاشة عملاقة في مكان الحفر ومشاهدتهم زيارة للّا نونة إلى الحاكم مباشرة، وانخراطهم في رقصة الجذبة التي شاهدوها على الشاشة، ما يشي بنجاح السلطة في ترويض المجتمع، وتعرية رموزه، وإفراغها من مضمونها. وما بين الطرفين، ثمّة وقائع كثيرة تعكس الصراع، الخفي والمعلن، بين السلطة والمجتمع الذي ينجلي عن نصر مؤزّر للأولى على الثاني. في سياق الصراع بين الفريقين، تقوم السلطة بالممارسات التالية: تأليه المسؤول (الحاكم الأعظم)، أعمال الحفر الغامضة والمشبوهة في بلدة منقطعة عن العالم بواسطة بعض المقاولين (المعلم لمباركي)، ممارسة القمع بواسطة كبار الموظفين (القائد الإداري، قائد الجندرمة، عميد الأمن الخاص)، التجسّس على الناس (ساعي البريد)، الإلهاء بالحكايات (بائع الحكايات)، التوظيف السياسي للدين (الشيخ المعمّم)، استدعاء المعارضين وتعريتهم أمام الملأ (نونة)، وغيرها... والملاحظ أن أسماء الشخصيات التي تتولّى هذه الممارسات ليست أسماء علم بل أسماء جنس، ولعل الكاتب تعمّد عدم التسمية والاكتفاء بأسماء الوظائف، في محاولة منه إضفاء الرهبة والغموض عليها، ما ينسجم مع الدور السلطوي الذي تنهض به كلٌّ منها. وهذه المحاولة تبلغ الذروة في رسمه شخصية الحاكم الأعظم حين لا يجرؤ أحد على ذكر اسمه، وتحيطه العامة بهالة من التقديس والإعظام، فهو لا قابل أحداً، ولم يسبق لأحد أن رآه، ويظهر في نهاية الرواية على شكل دائرة من الضوء، ما يجعل منه نوعاً من إله، يخشاه الناس ويرجونه في آن. وبذلك، ينجح المديني في رسم شخصية الحاكم في العالم المرجعي الذي يحيل إليه، وفي لحظة تاريخية حرجة، يعتبر فيها الحاكم نفسه إلهاً، ويقوم المحكومون بعبادته. إلى ذلك، يندرج ضمن شخصيات السلطة أدواتها المختلفة، فنرى المعلم لمباركي المقاول الذي جمع ثروته بطريقة مشبوهة، فينساق إلى تنفيذ ما طلب منه، تحت الترغيب والترهيب، ولا يجرؤ على المطالبة بحقة خشية أن يلقى مصير سواه من المتعهدين، فيتحوّل إلى أداة وضحية للسلطة، في الوقت نفسه. ونرى ساعي البريد الذي يتخذ من عمله غطاء للتجسّس على الناس والإيقاع بهم. ونرى القادة الأمنيين والإداريين الذين يمارسون القمع على أنواعه، وغيرهم. وفي سياق الصراع نفسه، يلجأ المجتمع إلى آليات الدفاع، السلبية والإيجابية، فيقيم على الصمت والخوف من الحاكم، ويحمل إحساساً بذنب لم يرتكبه، ويصنع رموزاً يحتمي بها (للاّ نونة)، ويحج إليها للتبرّك، ويرفع مطالبه إلى الحاكم بواسطتها، وينشغل في صراعاته الداخلية، ويمارس التجمّع والتظاهر، وحين يتم إسقاط رموزه بحيل السلطة ومناوراتها تنطلي عليه الحيلة، فيتخلى عن رموزه، وينخرط في لعبة السلطة، ويدور في فلكها... هذه الآليات تقوم بها مجموعة من الشخصيات، هي غالباً ضحايا السلطة في شكل أو في آخر، والفرق بينها وبين شخصيات السلطة هو أن لكل منها اسم علم يطلقه عليها الكاتب، ما يجعلها واضحة، أليفة، ويجرّدها من الغموض والرهبة، باستثناء للاّ نونة التي يحيطها بشيء من ذلك، لرمزيتها. وفي نظرة سريعة إلى هذه الشخصيات وأدوارها، نرى كبّور النسّاج الذي اعتقل ذات يوم تعسّفياً لذنب لم يرتكبه، ويتوجّس شرّاً من المخزنيين، ويعيش وسواس القبض عليه، ويتظاهر بالتدين والتقوى خشية القبض عليه، وهو ما إن يشاهد وقائع الموكب السلطوي حتى تستيقظ ذكريات اعتقاله، ويهرب إلى الذاكرة والمخيلة يحتمي بهما من الواقع. ونرى يطّو وحمّو الهاربين من القبيلة لزواجهما خارج أعرافها. ونرى لهيبل الزريّ الشكل الذي يقوم بالبحث عنهما للثأر لنفسه وللقبيلة. ونرى دحمان السائق المفصول من العمل الذي اعتقل لمطالبته بحقه. ونرى هنية السيّدة الجميلة التي تتقن فنون الإغراء والإيقاع بالرجال لتوظيفهم في مصلحتها، وتحقيق هدفها في الانتقام لأخيها الذي اختفى، وتتهم للاّ نونة بالمساهمة في إخفائه، ولذلك، تدخل معها في عداء تغذّيه الغيرة والصراع على النفوذ. غير أن الشخصية الأكثر تمثيلاً للمجتمع هي شخصية للاّ نونة التي تقيم وحيدة في الجبل، وتزعم مكانة دينية مستمدّة من نسبها القديم، فيحج إليها أهل البلدة وأصحاب الحاجات، وتُنسج حولها الإشاعات والأساطير، ويُسهم احتجابها ووحدتها في تحويلها إلى رمز ديني واجتماعي يجعل الناس يلتفّون حولها، فيحتفلون بالدعوة التي وُجّهت إليها من الحاكم، ويحمّلونها مطالبهم إليه، حتى إذا ما وقعت ضحية مكيدته، وفقدت رمزيتها، ينفضّون من حولها لينخرطوا في رقصة التسليم له. في «بلاد نون»، يستخدم أحمد المديني خطاباً روائيّاً مركّباً، تشوبه الصعوبة في بعض الفصول حين يمعن في الغموض ويطغى عليه الوصف. يتّكئ على التراث السردي العربي حين يستخدم أسلوب المقامة في الفصل الثاني ويكثر من السجع وتوازن العبارات، وحين تستدعي الغرائبية فيه أجواء «ألف ليلة وليلة». يأخذنا إلى الواقعية السحرية حين يمتزج العادي بالغريب والواقعي بالغرائبي. ولعل مثل هذا الخطاب يلائم الحكاية التي يحكيها في عالم مرجعي كثيراً ما يكون الواقع فيه أغرب من الخيال. والمديني يستخدم تقنية تعدّد الرواة، ويجمع بين الراوي العليم والراوي الشريك في الشخصية الواحدة، وينتقل بين الضمائر برشاقة ويسر، فتتنوع صيغ الكلام لديه، ويجنّب نصّه الرتابة والركود. وهو يمسك بالخيوط السردية ببراعة «المعلم» الذي يتقن حرفته وقد مارسها طويلاً. وهو يضفي على سرده التنوع حين يكسر نمطيّته بكلمة أو تصريح أو خطبة أو قصة أو حلم أو أغنية أو ومقطع شعري... ويفعل ذلك بلغة سردية مناسبة، رشيقة، تؤثر الجمل القصيرة والمتوسطة، ولا يتورّع عن استخدام عبارات وجمل وأغنيات وأبيات شعر أمازيغية توهم بأمازيغية الفضاء الروائي. «بلاد نون» رواية صعبة، منسوجة بخبرة كبيرة، وتستحق مواجهة الصعوبة في قراءتها. شارك المقال

مشاركة :