رحل الشاعر العماني محمد الحارثي عن عمر يناهز ستة وخمسين سنة بعد صراع مع المرض. ويُعدّ الشاعر من أهمّ شعراء قصيدة النثر في العالم العربي، ومن أكثرهم حماسة لممكناتها الفنية والأدبية. صدرت للراحل دواوين عدة هي: «عيون طوال النهار» و «كلّ ليلة وضحاها» و «أبعد من زنجبار» و «فسيفساء حوّاء» و «لعبة لا تملّ» و «عودة للكتابة بقلم الرصاص» ومختارات شعرية بعنوان «قارب الكلمات يرسو». وكتب في أدب الرحلة كتابين هما: «عين وجناح» الفائز بجائزة ابن بطوطة العربيّة لأدب الرحلات عام 2003 و «محيط كتمندو» الذي صدر عن دار مسعى البحرينية. وأصدر رواية عنوانها «تنقيح مخطوط»عام 2013. نصُّ الحارثي الشعري وإن متح من مصادر ثقافية شتّى عناصره الدلالية والفنية، فالشاعر قدم إلى الشعر من الجيولوجيا وعلوم البحار، فإنّه، جاء مضمّخاً بماء التجربة، تجربة الشاعر وهو يرهف السمع لإيقاع الحياة وموسيقى الأشياء من حوله، وقد لا نبالغ إذا قلنا إنّنا نستطيع أن نقرأ شيئاً من سيرة الرجل من خلال قصائده ونقرأ فيها بعضاً من المراحل الفنية والجماليّة التي مرّ بها... فشعره يشفّ عن شخصيّته ويكشف عن تاريخه الروحيّ ويبوح ببعض رموزه الأدبية والأسطورية. هذا الإيقاع الذاتي هو الذي جعل شعر الحارثي قريباً من النفس على فنتازيته حيناً ونزوعه السوريالي حيناً آخر. ثمّة في هذا الشعر شيء من البوح يتخلّل كلّ قصائده. ثمّة شيء من الاعتراف يتلامح في الكثير من مقاطعه. فمثل كلّ الشعراء الكبار كان الحارثي ينوء بأعباء غربة ثقيلة، سعى بطرائق شتى إلى تبديدها. وربّما كان السفر إحدى محاولات الرجل للانتصار عليها. السفر لدى الحارثي ليس له منزل معلوم، على حدّ عبارة ابن عربيّ، ينتهي عنده، هذا السفر إذا استدعينا معجم المتصوف الأندلسيّ، هو حالة وجودية، حركة لا تسكن أبداً «وإذا لاح لك منزل تقول فيه هذا هو الغاية انفتح عليك منه طريق آخر تزودت منه وانصرفت فما من منزل تشرف عليه إلا ويمكن أن تقول هو غايتي، ثم إنك إذا وصلت إليه لم تلبث أن تخرج عنه راحلاً». هذا الضرب من السفر هو السفر الذي أشارت إليه قصائد الحارثي بطرائق شتى. السفر، في قصائد الحارثي، هو الاسم الآخر، للشعر، للحياة، للغناء، للزمن يعود إلى دورانه... فهو الذي يتيح للشاعر أن يدخل إلى بدء جديد، وللحياة أن تكون شيئاً آخر مختلفاً. إنّ المتأمل في قصائد الحارثي يلحظ ميلاد لغة جديدة تبادهك بغرائبيتها، إذ تعمد إلى الجمع بين معجم مغرق في بداوته، ومعجم آخر ممعن في حداثته. لهذا كان الشعر عند محمد الحارثي، حركتين اثنتين متشابكتين، متدخلتين: حركة استرجاع، وهي حركة الذاكرة لا تفتأ تعود إلى الماضي، تلتقط شظاياه وتسعى إلى تركيبها من جديد، وحركة استباق، وهي حركة تتجه إلى المستقبل أي إلى الحلم تسعى إلى تهجي لغته وفك رموزها. في الحقيقة بحثت كثيراً عن سيف الدولة لا لأمتدحه بل ليسدّد فواتيري لكنه كما قيل لي يقضي حياته الآخرة على بعد فرسخ في الفردوس منهمكاً في متعته الوحيدة قراءة قصائدي ثلاث في اليوم بحثت كثيراً عنه ويبدو أني سأنتظره طويلاً لأزوره هناك على ضفاف نهري الحليب والعسل في هذه القصيدة تتداخل نصوص أدبية قادمة من عصور شتّى، بعضها يرتد إلى رسائل المحاسبي والمعري وبعضها إلى الكتابات الحديثة ذات النبرة العجائبية وربما سوريالية، بعضها يسترفد سيرة المتنبي، وبعضها يستلهم حياة الشاعر، بعضها يستعيد معجماً قديماً موغلاً في قدمه، وبعضها يستخدم لغة حديثة ممعنة في حداثتها كل هذا يتيح لنا القول إن قصيدة الحارثي تقيم في زمنين متباعدين. فهي هنا وهناك، عين على ما توارى واختفى، وعين أخرى على ما سيأتي ويجيء. وربّما من خصائص قصيدة الحارثي مزجها بين الأزمنة والمعاجم والصور على تباعدها وربما على تنافرها. قد لا نضيف جديداً إذا قلنا إن القصيدة الحارثية ما فتئت تبحث عن ممكناتٍ شعريةٍ جديدة. لهذا كانت كل مجموعة من مجموعات الحارثي الشعريّة تمثل مرحلة في مسيرة الشاعر وهذه المراحل على تعدّدها وتنوّعها يشدّها خيط ناظم: وهو سؤال الشعر... الشعر من حيث هي نشدان للمعنى، بحث ممضّ من أجل الظفر به... هذا البحث وذلك النشدان هما اللذان قادا الحارثي إلى آفاق شعرية جديدة... قوامها الاستعارات الجديدة وهي استعارات غريبة تشد انتباهنا لذاتها قبل أن تشدنا لما تنطوي عليه من دلالات. ويأتي السفر ليكون رديف الحلم وقرينه... أي ليكون نبعاً من ينابيع الشعر والمجاز... والواقع إن قصائد الشاعر قد استحضرت بنية الحلم وتركيبه. والحلم في تعريف فرويد، لغة من خصائصها الإغماض والتحريف، ومجانبة الدقة التي تقوم عليها لغة التواصل لهذا عد الحلم «بوحاً معمى» يكشف ولا يكشف، يقول ولا يقول. ومثل الحلم كانت قصائد الحارثي تقوم على الإخفاء والإضمار والمحو، الأمر الذي يغري بالتأويل إثر التأويل. وكما هو معروف فإن الدراسات اللسانية الحديثة تستبعد الأشياء من تحليل الظاهرة اللسانية، فعناصر اللغة لا تستمد معناها من الصلة تنعقد بين الكلمة والشيء وإنما من الصلة تنعقد بين الكلمة والكلمة. والشعر في جوهره تركيب للكلمات المألوفة على نحو غير مألوف. قصيدة محمد الحارثي أنموذج للقصيدة الحديثة التي عدلت عن كل ما استقرّ من أعراف لغوية وما استتبّ من تقاليد شعريّة مؤسّسة بذلك أسلوبها المخصوص ونبرتها المتفرّدة فالحارثي ما فتئ يبحث عن لغة جديدة لا تختلف عن اللغات التي تعاورها الشعراء فحسب وإنّما تختلف عن نفسها باستمرار بحيث تصبح كل قصيدة جديدة إعلاناً عن ولادة لغة جديدة. ولهذا أحبّ أن أقول في الأخير إنّ قصائد الحارثي كانت بمثابة مختبر شعريّ عملت كلّ الصور والأقنعة والرموز التي تفاعلت داخله على توسيع معنى الشعر، أي على توسيع معنى المعرفة، أي على توسيع معنى الحياة.
مشاركة :