لندن: محمد رُضا فيلم «بيردمان» يتناول حياة ممثل يحاول تجنب النهاية الداكنة لأمثاله؛ إذ كان، لحين ليس ببعيد، نجما كبيرا في السينما، لكن الشمس غربت عنه والآن يجد نفسه مطالبا من قبل ذاته بتبوؤ المكانة السابقة قبل أن تغيب بكاملها، وطريقته في ذلك هي إخراج وبطولة مسرحية ناجحة. كم ناجحة؟ لن نعرف. الممثل يريد الانتحار في نهايتها وإذا ما فعل نجحت، أو على الأقل تركت انطباعا وأثرا كبيرا. إنه الفيلم الجديد للمخرج أليخاندرو ج. إناريتو الذي عرض أول مرة في مهرجان فينيسيا الماضي. وهو بالفعل دخل وأنجز جائزتين مهمتين حتى الآن. وهذا الأسبوع فاز بجائزة أفضل فيلم من جمعية «غوثام إندبندنت فيلم أووردز». وهي ثاني جائزة ينالها في غضون أيام قليلة، إذ سبق له أن خاض مسابقة «هوليوود فيلم أووردز» ونال جائزة أفضل تصوير. وإذا حسبنا الجوائز الأربع التي جمعها من مهرجان فينيسيا (رئيسة وثانوية)، فإن مجموع الجوائز من مؤسسات سينمائية معروفة يبلغ 6 جوائز. كل هذا و«الغولدن غلوبس»، كما «الأوسكار» وبضع جوائز مهمة أخرى، لم تدخل نطاق التفعيل بعد وما زالت في مرحلة سعي الأفلام الآملة منافسة بعضها بعضا للفوز بها. * تجارب متشابهة إنها المنافسة التي يتوقعها المرء في كل مناسبة تمنح جوائز. وفي نطاق مسابقة جمعية «غوثام» النيويوركية، كانت هناك أفلام أخرى تستحق الفوز على نحو مماثل، كونها أفلاما رائعة مشغولة بعناية وتقول أشياءها العميقة بأساليب وكيفيات فنية ممتازة تماما، كما الحال مع «بيردمان»، من بينها «ذا غراند بودابست هوتيل» لوس أندرسون، و«بويهود» لرتشارد لينكلاتر. كل واحد من هذه الأفلام الثلاثة تميز عما سواه بأسلوب مختلف تماما من حيث المعالجة وطريقة السرد والهم الذي جسده. في نطاق التمثيل النسائي، فازت جوليان مور (ودائما عن جدارة)، وذلك بفضل دورها في فيلم «ما زلت حية». في معركتها، كانت هناك 5 ممثلات أخريات سعين للفوز بهذه الجائزة التي تمنح للسينما الأميركية المستقلة وصانعيها؛ هن: باتريشا أركيت عن «بويهود»، وغوغو مباتا رو عن «ما وراء الأضواء»، وميا ووزيكوفسكا عن «آثار»، كما سكارلت جوهانسن عن «تحت الجلد». 5 ممثلين دخلوا منافسة أفضل تمثيل رجالي؛ وهم: أوسكار أيزاك عن «العام الأكثر عنفا»، ومايلز تلر عن «ويبلاش» (إشارة إلى الطرف المشدود من السوط)، وإيثان هوك عن «بويهود»، ومايكل كيتون عن دوره في «بيردمان» وهو الذي فاز بها وعلى نحو يستحقه، فالتجربة التي تخوضها شخصية الممثل في ذلك الفيلم شبيهة بتجربته هو في السينما التي انبثقت عنها نجومية كبيرة حين لعب «باتمان» في أواخر الثمانينات، ثم لم يجد من الأدوار ما يبقيه في الصف الأول. والجائزة لأفضل فيلم تسجيلي ذهبت إلى «المواطن 4» للورا بولتراس التي حققت فيلما عن اللاجئ إدوارد سنودون. معظم الأفلام الواردة هنا سيتكرر ورودها في مناسبات أخرى. و«بيردمان» بالتأكيد سيكون من بينها، ليس فقط كمرشح في جوائز مخصصة للأفلام المستقلة إنتاجيا، كحاله، بل من بين تلك المرشحة عن الأعمال الهوليوودية ذاتها، فهو مستقل بحجم كبير ومع مجموعة من الفنانين العاملين في هوليوود أمام الكاميرا (مثل بطليه مايكل كيتون وإد نورتون) أو وراءها (يكفي مخرجه إيناريتو ومدير تصويره إيمانويل لوبزكي). منافسة شبيهة بين هذه الأفلام شهدتها نتائج الدورة الـ80 لجوائز «حلقة نقاد نيويورك»، لكن الجائزة هناك، قبل أيام قليلة كانت من نصيب فيلم «بويهود» وجائزة أفضل مخرج ذهبت إلى صانع الفيلم ريتشارد لينكلتر، بينما ذهبت جائزة السيناريو إلى «ذا غراند بودابست هوتيل» لأندرسن. * أي جائزة من أي مناسبة إنه موسم الجوائز الذي لا يكاد ينتهي (مع مطلع الشهر الثالث) حتى يبدأ الحلول من جديد بعد موسم الصيف مباشرة. الحالة باتت أقرب إلى سعال مستمر. نزلة برد تزداد ضغطا على الجسد السينمائي عاما بعد عام. ذلك إنه وحتى 10 سنوات فقط، كانت لا تزال المنافسة على جوائز الموسم محدودة بمناسبات رئيسة قليلة: «الغولدن غلوبس» في مواجهة «الأوسكار». «البافتا» الإنجليزية هنا و«السيزار» الفرنسي هناك وجوائز الاتحاد الأوروبي بينهما. جوائز أخرى منتشرة على الهامش لم تكن استوعبت بعد الاهتمام كاملا، مثل جوائز «غوثام» وجوائز الجمعيات المهنية في التصوير والكتابة والإخراج والإنتاج والتمثيل. لكن الوضع الآن مكتظ بالمناسبات والجوائز، وحافل جدا بالأفلام التي تسعى للفوز بأي جائزة من أي مناسبة، لعلها تكون فاتحة خير وتأكيدا على جوائز أخرى تالية. ومهرجانات السينما دخلت على الخط على نحو يثير تعجب النقاد الذين تابعوها. على سبيل المثال، لا الحصر، كان مهرجان تورونتو - إلى حين قريب - هو الجرس الذي يرن بدءا بسباقات الموسم. هذا المهرجان الكندي تعود منذ عقدين استضافة نجوم هوليوود من مخرجين ومنتجين وممثلين لعرض أعمالهم الجديدة (والكبيرة) على شاشته. جزء من هذه الأفلام كان يتجه بعد ذلك إلى السباقات الأوسكارية. «تورونتو» يعلن وجودها وهي تنسل منه للظهور بعد 5 أشهر في قوائم الترشيحات. ثم حدث في العام الماضي أن دخل مهرجان توليارايد الأميركي على الخط. سرق من «تورونتو» فيلما بعنوان «12 سنة عبدا» للمخرج البريطاني ستيف ماكوين والفيلم طار فوق الرؤوس ليحط في حفلة أوسكار مطلع هذه السنة، مستحوذا على أوسكار أفضل فيلم. لا يهم إذن ما استحق - نقديا - كل ما قيل فيه من مدح. المهم هو أن «توليارايد» «اكتشف» هذا الفيلم عنوة عن «تورونتو». هذه السنة فرض «تورونتو» مبدأ جديدا: لا تعرض في اليومين الأولين أي أفلام سبق عرضها في مهرجان آخر. نجاح هذا الشرط ما زال غير واضح. المنافسة بين المهرجانين على عرض ما سيعيش على صفحة جوائز الموسم، لم تضمحل، بل ازدادت واتسعت. هذه السنة، ولأول مرة، دخل مهرجان نيويورك على الخط بعرض فيلمين أميركيين عرضا أولا. في السادس والعشرين من شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وإثر انتهاء مهرجان تورونتو، عرض مهرجان نيويورك «فتاة اختفت» لديفيد فينشر و«رذيلة متوارثة» لبول توماس أندرسن. كلا المخرجين من المترددين دوما على الجوائز السنوية المختلفة. * حلقات نقدية القول بأن هدف الجوائز في هذا الموسم السنوي المتكرر، وسواء أكانت جوائز مهرجانات أو جوائز جمعيات مختلفة، هو سرقة الوهج من «الأوسكار» - ليس دقيقا. «الأوسكار» لا يسرَق ولا يقلَّد. إنه تاريخ صلب من العمل يقع في نهاية الشوط عندما تكون كل المؤسسات والجمعيات والمهرجانات لفظت جوائزها وبذا هو بمثابة الكلمة الأخيرة والذروة الأعلى في السباق. لكن - حقيقة - الكثير من الأفلام والشخصيات التي تدور في فلك هذه المناسبات هو ما يجهض قدرا مقلقا من الاهتمام بـ«الأوسكار» في نهاية المطاف. تصور أنك إيثان هوك أو مايكل كيتون أو جوليان مور. كل واحد من هؤلاء سيجد نفسه من الآن وحتى الشهر الثالث من السنة المقبلة محط دخول وخروج من المؤسسات المانحة للجوائز في حفلات متكررة تحت أسماء مختلفة. من بينها جوائز الاتحادات النقدية وأشهرها «مجلس النقد الوطني» و«المجلس الوطني لنقاد السينما» وأكثر من 10 حلقات نقدية في كل مدينة أميركية كبيرة (من نيويورك وبوسطن إلى سان فرانسيسكو ولوس أنجليس). من بينها أيضا جوائز الجمعيات المهنية التي تضم كتابا ومنتجين وممثلين ومخرجين ومصورين وفناني مؤثرات ومونتير وموسيقى إلخ. وهناك مؤسسات أخرى قوامها إعلاميون وصحافيون ونقاد مثل «جمعية الساتالايت» و«جمعية الميديا» (وهي جديدة)، وبالطبع جمعية مراسلي هوليوود الأجانب التي هي أكبر وأجدر هذه الجمعيات والمتنبئ الحقيقي باتجاه «الأوسكار». الناتج إذن هجمة كبيرة على الحفلات التي ستنطلق من اليوم وحتى موعد «الأوسكار». هناك مستفيدون كثر، من بينهم الصحافيون الفنيون والمصورون وبرامج التلفزيون المنوعة وأصحاب المطاعم الذين يؤمنون الموائد الباذخة، وشركات الليموزين وما سواها، لكن هناك قدر من الفوضى تشبه تلك التي تنشأ عندنا من جراء ورود أهم المهرجانات السينمائية العربية في الأشهر الثلاثة من العام. الفوضى ليست من ذلك النوع الذي يؤثر سلبا في المتلقي (الجمهور والنقاد مثلا)، بل يترك أثره على الاختيارات الصحيحة للأفلام التي تستحق الاشتراك أو التنويه أو الجوائز بحد ذاتها. فوضى تشمل حقيقة أن توزيع الاهتمام حول الأعمال الجيدة ينحصر، غالبا وبالنسبة لمعظم الجمعيات، فيما بوشر عرضه منذ الشهر التاسع من العام وحتى نهاية السنة، في حين تجد الأفلام الجيدة التي عرضت في فصلي الربيع والصيف نفسها عرضة للتجاهل، مما يفرض عليها العمل مجددا لكسب موقع قدم تنتقل به من حالة النسيان إلى حالة الحضور (وغالبا بنتائج سلبية). على الرغم من ذلك، فإن الناتج أميركيا وعالميا (بضم المناسبات الأوروبية على الأقل)، هو حالة من النشوة الجارفة. إنها السينما تهدي نفسها جوائز. أفلام ذات قيمة تحصد ما تستطيع حصده من تقدير مترجم إلى أيقونات وشهادات أو تماثيل مذهبة. وإذا كانت أوروبا تكتفي ببضع تظاهرات من هذا النوع، والعالم العربي يتوقف عند حد تلك الجوائز التي تمنحها مهرجاناته الكبيرة، فإن السينما الأميركية تشع بالمناسبات التي ستتوالى على نحو محموم. وفي كل مرة، ستتعالى التوقعات ثم تنزوي حالما تعلن النتائج. والأمر المهم في ذلك، أن كل حشد من الجوائز يحصدها فيلم أو فنان، باتت نوعا من الإعلان المبكر عن موقع هذا الفائز من الجائزة الكامنة في نهاية الرحلة. تلك الجائزة التي اسمها «الأوسكار» والتي وصفتها مارلين مونرو ذات مرة بالرأس الذي تمت الإطاحة بالجزء المفكر من دماغه!
مشاركة :