تحولات لا إنسانية في ظل الاقتصاد الضّاري والحرب الدّائمة!!

  • 5/30/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يرى المفكر الألماني ماكس فيبر وهو أحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث ودراسة الإدارة العامة في مؤسسات الدولة، أن الرأسمالية الحديثة تنهض على ظاهرة المشروع الاقتصادي القائم على التنظيم العقلي الذي تتم إدارته وفقًا لمبادئ علمية وأنظمة العمل العقلانية، واعتبار العمل المهني هدفًا ومطلبًا رئيسيًا في حياة الفرد، وأن العمل ينهض على جملة من القيم الثابتة مثل الأمانة والالتزام والتنظيم، وتعتبر من السمات الواضحة لروح الرأسمالية الحديثة.  إلا أن التطورات التي طرأت خلال السنوات الماضية على الرأسمالية في الغرب تحديدًا، قلصت وقزمت من قيمة العمل وقيمه في ذات الوقت، وأربكت الأنظمة المستقرة، في ضوء انتشار ظاهرة الاقتصاد غير الحقيقي القائم على المضاربة المالية العابرة للحدود. ويدعي المدافعون عن نظام العمل الجديد في الغرب أنه أكثر ديموقراطية من التنظيم السابق الذي وصفه عالم الاجتماع الالماني ماكس فيبر، في بداية القرن الماضي بأنه يشبه التنظيم العسكري، وذلك أن العمل كان يسير وفق مبدأ الهرمية، حيث يقف على رأسه الجنرال أو رب العمل، ويحد من خطر الازدواجية فيعطي لكل مجموعة من العمال وظيفة محددة. هكذا كان مدير الشركة في القمة قادراً على تقرير سير سلاسل التركيب او المكاتب تمامًا كما يقوم الجنرال في إدارته للجيش، أضف إلى ذلك انه ومع تزايد حجم الاقتصاد غير الحقيقي (أو الافتراضي) تقلصت الحاجة إلى العمال العاديين، وزاد الطلب على العمال المهرة من أصحاب المؤهلات المتنوعة والعالية، ممن يمتلكون أكبر قدر من المرونة والقدرة على تحمل تعدد وتغير الوظائف ومواقع العمل عشرات المرات. مع القدرة على القبول بمنطق المجازفة وعدم المراهنة على الاستقرار في العمل. ولكن يبدو اليوم هذا الادعاء خاطئًا تمام الخطأ، فالهرم القديم استبدل بدائرة جهنمية لا إنسانية، يقف في وسطها عدد قليل من المسؤولين عن اتخاذ القرارات وتحديد المهمات وتقويم النتائج. وقد سمحت لهم الثورة المعلوماتية بفرض رقابة مباشرة على سير العمل لم تكن متوافرة في النظام القديم. وان الفرق الجديدة العاملة عند حدود الدائرة باتت حرة في الاستجابةل أهداف الإنتاج، كما حددها المركز، وحرة في تقرير وسائل تنفيذ هذه المهمات ضمن المنافسة المتبادلة، لكنها ليست حرة في تحديد طبيعة هذه المهمات نفسها. وضمن المخطط الهرمي القديم كانت المكافأة تذهب إلى من يقوم بعمله على أفضل وجه، وأما في مخطط الدائرة الجديد الأخذ في التصاعد والانتشار، ضمن الاقتصاد الربحي الصرف الذي لا يعبأ بالمسألة الاجتماعية، فتكافؤ فقط الفرق الرابحة، على نمط لعبة البوكر الشهيرة، فالجهد الصرف لوحده لم يعد يكافئ، بما يجعل الصيغة الجديدة تساهم في زيادة فروقات الرواتب والمكافآت داخل المؤسسات التي تدعو إلى المرونة والمجازفة. ولعل التغير الثاني في أنظمة العمل الرأسمالية الكاسحة في الوقت الحاضر هو التحول نحو العمل المؤقت غير المستدام، ففي منطق الرأسمالية الجديد: «لا أمد طويل للعمل»، ولا أماكن ثابتة له، وقد حلت خطط المهنة محل الوظائف القائمة على تنفيذ مهمات دقيقة ومحدودة، فما أن تنتهي المهمة حتى يتم إلغاء الوظيفة. ففي قطاع التكنولوجيات المتقدمة، يقدر معدل حياة الوظيفة بثمانية أشهر إلى سنة، والعاملون يبدلون باستمرار شركاءهم المهنيين، وتدعو النظريات الجديدة في إدارة الأعمال إلى عدم تجاوز «فترة استهلاك» الفريق العام الواحد، فلم تعد هناك من شركة جديدة ترغب في التوظيف لمدة غير محددة. ومن الصعب الوفاء لمؤسسة غير مستقرة لا تبرهن عن وفاء حيال موظفيها أو عمالها، مما سوف يؤدي في النهاية إلى تراجع الالتزام بالعمل وبقيمه، ويترجم بانخفاض في الإنتاجية وشيء من اللامبالاة حيال فكرة السرية المهنية وقيم الإخلاص والوفاء والانتماء للمؤسسة. أما التعبير الثالث للرأسمالية الجديدة، فهو تنميط بيئة العمل، فمنذ بضع سنوات وخلال زيارته مبنى «شانين» في نيويورك، وهو كناية عن قصر حقيقي مزود بمكاتب حديثة جدًا وأمكنة عامة رائعة، اعلن مدير احدى الشركات الكبرى في قطاع الاقتصاد الجديد: «إن هذا المكان لا يناسبنا، فالناس يمكن ان يبالغوا في تعلقهم بهذه المكاتب، يمكنهم تملكها». وعليه لا يفترض بالموظف أن يعيش في مكتبه بشكل طويل الامد، بل يجب ان يكون تواجده ضمن نظام العمل المرن، فالبنية الإدارية للمؤسسات المرنة تتطلب بيئة مادية يمكن تعديلها بسرعة فائقة، ويكون «المكتب» كناية عن طرف إلكتروني، اكثر حيادية وتنميطًا وقابلية للتعديل المباشر. إن أنماط السلوك السائد في نظام العمل الجديد من شأنها تدمير النظام العائلي الأساسي واستقرار الحياة البشرية واستمرارها، حيث ينتظر أن يفضي هذا النظام الجديد إلى: عدم الالتزام، عدم التورط، التفكير القصير المدى، والإضرار بـ«القيم العائلية» المستقرة والمرتبطة منذ فترة طويلة جدا بنظام العمل. فهذا «الاقتصاد الضّاري» للقوى الرأسمالية الكبرى المرتبط بـ«الحرب الدّائمة» من أجل السيطرة على الموارد الطبيعيّة، واستعمال الحرب خدمة لمصالح الشركات العابرة ينتج المزيد من المخاطر، التي تزعم الليبراليّة الجديدة بأنها تسعى إلى التصدّي إليها بواسطة آلاتها العسكريّة، ومن ذلك التدمير المرتبط بانظمة السوق والعمل وغيرها من الجوانب التي انتجت فوضى لا تكاد تتوقف عند حد. إن هذه الإشكالية ليست مجرد رجع صدى للتحولات في أنظمة العمل في ظل الرأسمالية المتوحشة العابرة للقارات والحدود فقط، ولكنها توشك أن تغير المجتمعات وتمس القدر الضروري من استقرارها، في ظل الأخطار المحدقة بالتضامن العائلي والإنساني بالاتجاه سريعًا نحو العيش في عالم بلا قلب.  همس في جهة الصمت آخر مرة، قالت: أبحث عن لحظة شاردة عند نافذة السماء السابعة. قلت: قد غادر القطار محطته الأخيرة، ولم يبق غير انتظار الرحلة القادمة. عيناها والصفارة تدوي وحشة، وخداها ارتعاش في وَحْدَتِهِ. عِطر البارحة وصور الرحيل المعلق على محطة منتصف الليل. غفت على صور اللقاء أوراقي، فأضعتها والمطر رذاذ  ووشوشة صدىً في فجر الولادة.

مشاركة :