أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام فضيلة الدكتور صالح بن محمد آل طالب، المسلمين بتقوى الله في السر والعلانية؛ مؤكداً أنها الباعث على الصلاح والحاجز عن الإثم، وهي العدة والرابط الوثيق على القلوب عند الفتن، وهي الزاد للآخرة. وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم بمكة المكرمة: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان؛ فكان مطلع الصبح الصادق، في ليل الإنسانية الغاسق، ومن سنا القرآن وجذوته تتبدد الظلم، وبالتماس الأمة هديها من هداه وريها من رواه يجمع الله لها شعث أمرها، ويبدد حالك ليلها. وحقيق بالأمة أن تعود إلى هذا القرآن في كل حين؛ فتنهل منه نهل الظامئين، لا عودةً إلى قراءته فحسب؛ ولكن إلى تأمل معانيه، وتدبر آياته، وبث حقائقه في حياة الناس؛ لتكون قضايا القرآن الكبرى هي قضايا الناس، كقضايا التوحيد والبعث والرسالة، ولنعظم ما عظمه القرآن من العقائد والشرائع والأخلاق، ونعطي كل قضية بقدر ما أعطاها القرآن؛ إن فعلنا ذلك فقد صدقنا في العودة إلى القرآن، وما أحوج الأمة الغافلة، المشغولة عن الفرض بالنافلة، أن تعود إلى كتاب ربها وتهتدي بهداه. وأضاف: من قرأ القرآن العظيم رأى قضية الإيمان باليوم الآخر والبعث والنشور حاضرةً فيه أتم الحضور، كررها الله تعالى في مواضع من كتابه، وأعاد القرآن فيها وأبدى، وضرب لها الأمثال والآيات، وجادل فيها المشركين، وأمر الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يقسم عليها، في ثلاثة مواضع من كتابه، قال الله تعالى: {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير}، وقال سبحانه: {وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب}، وقال عز وجل: {ويستنبؤونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين}. وأردف: لهذا كان الإيمان باليوم الآخر ركناً من أركان الإيمان، التي بيّنها القرآن أوضح بيان، قال تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قِبَل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين}، وفي حديث جبريل المشهور عليه السلام لما أتى يعلّم الأمة أمر دينها، والذي وردت فيه معاقد الدين وحجزه، قال: (فأخبرني عن الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت). وقال "آل طالب": خير الأدواء لأمراض القلوب المواعظ، ومن أعظم العظات تذكر اليوم الآخر، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم، ما لهم من الله من عاصم، يوم تذوب فيه بين العالمين الفوارق، وتُبَيّن فيه وجوه الحقائق، يوم تنطفئ فيه من النفوس حظوظها، وانتصارها لآرائها وأفكارها، يوم يعرض العبد على ربه ليس معه أحد، ولا تخفى على الله منه خافية، ويكون فيه اللقاء الأعظم والمواجهة الكبرى، إنها مواجهة الإنسان بكل ضعفه مع الله جل جلاله؛ حيث لا تخفى عنه يومئذ خافية، والأسرار في علمه سبحانه ظاهرة علانية؛ مبيناً أن لحظات البعث بعد الموت وبدايات استهلال الحياة بعد الفناء وأهوال يوم المطلع مشهد طالما أمضّ قلوب العارفين وأطال السهاد في أعين المتعبدين وانخلعت له أفئدة الموقنين؛ ففي يوم ليس كسائر الأيام وعلى عرصات لا حياة فيها ولا أحياء، وفي سكون هذا الكون العظيم، وبعد فناء الخلائق أجمعين، وحين يأذن رب العالمين، تمطر السماء أربعين صباحاً مطراً غليظاً كأنه الطل؛ فتنبت منه أجساد الناس كما ينبت البقل، وقد بلي من الناس كل شيء إلا عجب الذنب، وهو العظم المستدير الذي في أصل الظهر، ومنه يركب الخلق، ثم ينفخ إسرافيل عليه السلام في الصور، نفخة البعث والنشور؛ فتعاد الأرواح إلى الأجساد، {ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون}، وتتشقق القبور عن أهلها، ويخرج الناس أجمعون، من لدن آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة {ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا}، {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون}، فتصور في نفسك الفزع لصوت تشقق الأرض وتصدعها، وخروج الناس كلهم من قبورهم، وقيامهم لله قومة واحدة: {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون}، تتشقق عنهم القبور، وقد لبثوا فيها الأعوام والدهور، في نعيم أو عذاب، في فسحة أو ضيق، وأول من ينشق عنه القبر محمد صلى الله عليه وسلم يقول عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع). وأضاف: الناس يساقون إلى أرض المحشر وهي أرض بيضاء نقية، ليس فيها معلم لأحد، {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا، فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً}.. يُحشر المؤمنون إلى العرصات {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً}، ويحشر المجرمون يومئذ زُرقاً، واجفة قلوبهم، خاشعة أبصارهم، شاخصة لا ترتد إليهم، ويحشر الكافر على وجهه، ويحشر المتكبرون كأمثال الذر في صورة الرجال، وتحشر الخلائق كلها، حتى الوحوش والبهائم {وإذا الوحوش حشرت}، {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون}، {قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم}، {ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود}، {ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً}، وإذا جمع الله الأولين والآخرين يرفع لكل غادر لواء يقال هذه غدرة فلان ابن فلان، ويأتي كل امرئ بما غل يحمله على ظهره، من ذهب أو فضة أو غير ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني؛ فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك). والغلول هو ما أُخذ من مال المسلمين العام بغير حق، {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة}، {وأشرقت الأرض بنور ربها}؛ فأضاءت حين يتجلى الحق تبارك وتعالى للخلائق لفصل القضاء ووضع الكتاب، وجيء بالنبيين: يشهدون على الأمم بأنهم بلّغوهم رسالات الله إليهم، والشهداء من الملائكة الحفظة على أعمال العباد من خير وشر، {وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون}، {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تُظلم نفس شيئاً، وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين}، ترى الوجوه يومئذ إما مبيضة أو مسودة. وترى الموازين طائشة إما ثقالاً وإما خفافاً. وترى الكتب إما في ميامن الأيدي أو في شمائلها. وأردف خطيب الحرم المكي: لله ما أعظم ذلك الموقف، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، يطول على الناس الوقوف، وتدنو منهم الشمس على قدر ميل، ويُعرقون على قدر أعمالهم، وأناس في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله، حتى يأذن الله بالشفاعة لمحمد صلى الله عليه وسلم في الفصل بين الخلائق، وينيله المقام المحمود؛ فصلى الله على محمد في الأولين وفي الآخرين. وتابع بالقول: الإيمان باليوم الآخر وبالبعث والنشور كفيل بتصحيح مسار الحياة، وأن تنبعث الجوارح إلى الطاعات، وتكف عن المعاصي والسيئات، وآيات القرآن تُبَين هذا المعنى وتُظهر علاقة الإيمان باليوم الآخر بفعل الطاعات والكف عن المعاصي، يقول الله تعالى: {إنما يعمر مساجد من آمن بالله واليوم الآخر}، ويقول سبحانه: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم مُلاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون}، ويقول لنبيه: {وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل}، وفي آيات الطلاق: {ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر}. وقال "آل طالب": الإيمان باليوم الآخر يصنع إنساناً جديداً، له أخلاقه وقيمه ومبادؤه، ونظرته إلى الحياة. لا يلتقي إنسان يؤمن بالآخرة ويحسب حسابها مع آخر يعيش لهذه الدنيا وحدها، ولا ينتظر ما وراءها؛ لا يلتقي هذا وذاك في تقدير أمر واحد من أمور هذه الحياة، ولا قيمةً واحدة من قيمها الكثيرة، ولا يتفقان في حكم واحد على حادث أو حالة أو شأن من الشؤون؛ فلكل منهما ميزان، ولكل منهما نظر يرى عليه الأشياء والأحداث والقيم والأحوال، كما أن الإيمان باليوم الآخر يُزيل الشبه الواردة على القلوب والعقول، وضعف الإيمان بذلك اليوم ينبت في القلب الشكوك والشبهات، قال الله تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون، ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون}. وأضاف: متى آمن العبد باليوم الآخر، وأيقن بما بعد الموت، تَقَشّعت عنه كثير من الشبهات، ومَن قرأ القرآن بقلب حاضر أسفر صبح فؤاده؛ فإنه كلام الله، وفيه الشفاء لأمراض القلوب والأبدان، {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً}. وأردف: المؤمن بالله واليوم الآخر مرتاح الضمير، مطمئن إلى مستقبله النضير، يؤمل رحمة الله وعفوه وإحسانه، ويخشى ربه ويخاف عذابه، يدرك أن بعد هذا اليوم يوماً، وأن وراء الدنيا آخرة، إن فاته شيء من الدنيا فهو يرجو العوض في الآخرة، وما وقعت عليه من مصيبة فإنه يحتسبها، وإن رأى نعيماً في الدنيا تَذَكّر نعيم الآخرة، يقرأ قول الله: {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون}، يعمل في دنياه كما أمره الله، ويحسن إلى الناس، ويعمر الأرض، يؤمن أن الآخرة تعدل ما مال في هذه الدنيا من موازين، وتخفض ما ارتفع من الباطل: {إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة}.
مشاركة :