الوطن ليس حفنة تراب ..

  • 12/4/2014
  • 00:00
  • 16
  • 0
  • 0
news-picture

الوطن في التفاصيل والأداءات اليومية الصغيرة وليس في الشعارات. وهو أيضاً - أي الوطن - إنسان قبل أن يكون حفنة تراب. وعليه فإن الشراكة في الوطن لا تحتاج إلى بيانات. كما أن فكرة رفض العنصرية والطائفية لا تتطلب كل تلك الظهورات المكثّفة على الشاشات، وتدبيج المقالات في عبارات مستهلكة ومكرورة. فالأوطان لا تبنيها الأقوال والشعارات، بقدر ما تشيّد أركانها السواعد المخلصة. التي تمتلك إرادة الحياة، والعيش المشترك، على قاعدة التنوّع والتعدّد والاختلاف. وبالتالي فإن كل كلام عن الوطن والوطنية والتعايش والتسالم الاجتماعي، بدون رصيد فعلي على أرض الواقع، لا يُعتد به، ولا يعول عليه. إن مجرد الحديث عن الشراكة ونبذ الطائفية والعنصرية، يعني وجود أزمة في منسوب الوطنية. إذ لا يمكن لأحد الحديث عن شيء غير موجود أصلاً. وذلك يعني بطبيعة الحال وجود جهات أو قوى ضد فكرة الوطن. وهي التي تريد لمفاعل الطائفية أن يستمر في الاشتعال. إلا أن الملاحظ هو كثرة الحديث عن أهمية محاربة الطائفية والتصدي لأعداء الوطن. وكأننا جميعاً صرنا ننشد بشكل لا واع، وبشكل يومي، نشيد تمجيد الوطن. ولكن بدون أن نتعرف على وجوه أولئك الذين يعادون فكرة الوطن المشترك. أو ربما لا نريد تسمية ذلك العدو. الشاشات تزدحم بالوجوه التي تدعو للوحدة الوطنية. والصحف ومواقع التواصل الاجتماعي تفيض بمقالات التغني بالوطن. وبمناسبة وبدون مناسبة يبدي الجميع حرصه على اللحمة الوطنية ورفض ثقافة الإقصاء والتهميش، فمن يعادي الوطن إذاً!؟ ولماذا نكثر من الحديث حول الوطن والمواطنة ما دمنا كلنا نحب الوطن ونرفض أي مساس بترابه أو مكوناته الاجتماعية أو مؤسساته الحكومية!؟ وأين يقيم هذا العدو الخفي الذي لا نمل من محاربته بالكلام!؟. إن من يكثر من الطرق حول موضوع، كما تقول الدراسات، يعني أنه يعاني من تيه قبالة ما يتحدث عنه. بما في ذلك أعراض الخوف والارتباك والنقص في الأحاسيس أو حتى ضمورها. وعليه، يمكن النظر بإيجابية إزاء كل ذلك الكلام الفائض حول الوطن والوطنية. إذ يبدو أن مجتمعنا بكل فئاته وأطيافه يعبر الآن لحظة من لحظات الاستحقاق التي تجعلهم يختلفون على شكل الوطن، ويتفقون على صيغة أفضل لتشييده في الوعي والوجدان. وهو أمر مستوجب نتيجة انتباهات شعبية من الداخل، وبسبب المتغيرات العالمية التي تضغط من الخارج لتشكيل معالمه. لكل منا تصوره الخاص عن الوطن. وهذا التصور نابع من مخياله الشخصي ومن خبراته العلمية والحياتية. فالأكاديمي يتخيّله منظومة من الجامعات والمعاهد والمدارس المبنية على أحدث طراز والمحتوية على أرقى ما وصلت إليه البشرية من علوم ومعارف. والمتدين يريده متوالية من المساجد التي تمكّن الناس من أداء فروضها العبادية على أكمل وجه. والاقتصادي يتمناه غابة من الورش الصناعية والإدارية والبنوك التي تجعل الاقتصاد حالة إنتاجية وليس مجرد مظاهر استهلاكية. كذلك الفنان لا يتصور الوطن بدون مسارح أو مكتبات وهكذا. وأعتقد أن هذه التصورات والتخيّلات ما زالت تتحرك ببطء إزاء بعضها البعض. لدرجة أنها تتصادم أحياناً وكأنها تعيش حالة صراع حتمي. فيما يفترض أن تنبني العلاقة بين كل تلك الإرادات داخل نظام يقوم على التكامل. إذ لا يمكن لوطن أن ينهض على رؤية أحادية. وهذا هو بالتحديد ما يوّلد الإرهاب بكافة أشكاله، الذي يؤدي بدوره إلى تهديد مفهوم الوطن. فالعنف لا ترتكبه الجماعات المتطرفة دينياً فقط. إذ يمكن أن يكون التاجر الجشع المتوحش. ويمكن أن يكون المثقف الإقصائي. كل من يحارب المواطن في قوت يومه ليس محباً للوطن. وكل من يكتب عبارة تحقيرية لمكوّن اجتماعي من مكونات المجتمع لا يحب الوطن. وكل من يحتكر الأرض ليحرم الناس من سكن لائق لا يحب الوطن. وكل من يسمّم المواطنين بأغذية مغشوشة هو قاتل للوطن. وكل من يغذي التعصب والنعرات بكل أشكالها يهدد أمان الوطن. وكل من لا يؤدي وظيفته على أكمل وجه هو مخرب للوطن. الوطن ليس بحاجة إلى مزايدات وبيانات وشتائم لأعدائه الخارجيين وتخويف من مؤامرات للنيل منه فهذه مهمة الذين يعتاشون على التزلف من وجهة، وتخويف الناس من جهة أخرى. إنما هو بحاجة لمواطن يحترم تفاصيل الحياة اليومية الصغيرة لأنها هي الرصيد الفعلي للمواطنة الحقّة. بمعنى أن يكون لديه - مثلاً - ثقافة حق المرور عندما يقود سيارته ويوقفها بطريقة آمنة. وهو بحاجة لمواطنين لا يسخرون من بعضهم البعض لمجرد الاختلاف في العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية. وهكذا يمكن أن يكون الوطن أجمل. أي عندما ننتج يوميات صغيرة ونتقاسمها بحب بعيداً عن البيانات والشعارات. فعلى هذه التفاصيل الصغيرة تنبني الدولة.

مشاركة :