تلقت الدولة الإيطالية ضربة موجعة، في 23 مايو عام 1992 باغتيال أحد رجالها وهو القاضي جيوفاني فالكوني، الذي تولى على عاتقه مسؤولية محاربة عصابات المافيا لفترة طويلة قبل أن تنال منه إحدى أكبر عصابات المافيا الإيطالية، وهي مافيا صقلية المعروفة باسم كوزا نوسترا بتفجير سيارته بما يقارب الـ1000 كغم من المواد المتفجرة، ما أسفر عن مقتله مع زوجته وثلاثة من حراسه، في ما عرف بمذبحة كاباتشي. مؤخرا، أحيا الآلاف من الإيطاليين ذكرى اغتيال القاضي فالكوني، وحضروا إلى مدينة باليرمو عاصمة إقليم صقلية، تكريما لذكرى الرجل الذي ضحى بحياته لمكافحة عصابات المافيا التي طالما عكرت صفو حياة سكان صقلية وغيرها في أنحاء إيطاليا، كما تذكروا صديقه القاضي باولو بورسيلينو الذي نالت منه أيضا المافيا بعد فالكوني في أقل من شهرين، في مذبحة طريق داميليو. وخلال المؤتمر الذي عقد لإحياء ذكرى فالكوني ألقى روبرتو سكاربيناتو، المدعي العام في محكمة استئناف باليرمو، كلمة أمام الحضور قال فيها إن هناك جزءا من تاريخ مذابح المافيا لا يزال سريا، وبرهن على حديثه بأن هناك مستندات تمت سرقتها وإخفاؤها فور اغتيال القاضيين، مثل الأجندة الحمراء الشهيرة التي كانت بحوزة باولو بورسيلينو، والتي كان لها دور في كشف جرائم عصابات المافيا. وقالت ماريا فالكوني في تصريحات صحافية، إن شقيقها جيوفاني لم يتم اغتياله من طرف المافيا فقط، مشيرة إلى وجود محرضين على المذبحة التي راح ضحيتها فالكوني، كما أشارت إلى ممولين كبار وأجهزة مخابرات، لتفتح تصريحاتها الباب أمام تساؤلات حول شبكة المصالح المعقدة التي تمتلكها عصابات المافيا الإيطالية. وذكرت صحيفة إل-دوبيو الإيطالية أن فياميتا بورسيلينو، ابنة القاضي بورسيلينو الذي اغتالته المافيا، ذهبت في سنة 1992 إلى أحد أشد السجون حراسة للقاء الأخوة غرافيانو، وهم من أشهر أفراد مافيا كوزا نوسترا، وخلال اللقاء ذكر جوزيبي غرافيانو رئيس الوزراء الأسبق سيلفيو برلسكوني، مشيرا إلى الحياة المرفهة التي يعيشها في مدينة ميلانو. المافيا السياسية أطلق غرافيانو مفاجأة من العيار الثقيل في وجه فياميتا عندما أخبرها بأنه هو وجميع أفراد مافيا كوزا نوسترا كانوا كثيري التردد على برلسكوني، لكنه بعكس توقعات الجميع توقف في حديثه عند هذه النقطة ولم يشر إلى أي علاقة لبرلسكوني باغتيالات القضاة، ولم تطلب فياميتا منه مواصلة الحديث في هذا الصدد وغيرت موضوع الحديث. أحد أسرار قوة واستمرارية عصابات المافيا الإيطالية هو أنها تتمتع بمرونة كبيرة في التكيف مع الظروف المحيطة بها، حيث تشهد أنشطتها عدة تحولات في شكلها ومضمونها لتناسب مستجدات الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وعندما أبدى فيليبو غرافيانو، الشقيق الأكبر لجوزيبي غرافيانو، استعداده للإفصاح عن المزيد من التفاصيل، بعد إلحاح من فياميتا كي يتحدث عن مقتل والدها، قال لها “إنه لو تحدث عن ماضيه سيودعونه السجن”، بعدها قررت نيابة باليرمو عدم السماح لفياميتا بزيارة فيليبو، بدعوى أن مثل هذه الزيارات من شأنها الإضرار بسير التحقيقات. وخلال حديث المدعي العام سكاربيناتو عن ضياع بعض المستندات الهامة في أعقاب تنفيذ اغتيالات القضاة، مثل الأجندة الحمراء المملوكة لبورسيلينو، أشار سكاربيناتو إلى اختراق محتمل لجهاز الشرطة من قبل المافيا، ثم انتقل إلى الحديث عن منع القاضي فالكوني من مغادرة باليرمو بسبب اهتمامه بجريمة قتل بيرسانتي ماتاريلا، رئيس إقليم صقلية آنذاك، وشقيق رئيس الجمهورية الإيطالي الحالي سيرجيو ماتاريلا. وأعادت مثل هذه التصريحات إلى الأذهان أحد أكثر المواضيع جدلية داخل المجتمع الإيطالي، وهو تدخل عصابات المافيا في الحياة السياسية، وما لذلك من تبعات محتملة، مثل تواطؤ أفراد المافيا مع بعض الساسة لوجود مصالح مشتركة بينهم وتستر السياسيين على جرائمهم. مافيا الدولة القاضي جيوفاني فالكوني حارب عصابات المافيا لفترة طويلة قبل أن تنال منه القاضي جيوفاني فالكوني حارب عصابات المافيا لفترة طويلة قبل أن تنال منه تناولت مجلة ميكرو ميغا الإيطالية اليسارية مسألة تغلغل المافيا الإيطالية داخل المجتمع الإيطالي من زوايا مختلفة، وأجرت لقاء مع جان كارلو كازيلي، المدعي العام لمدينة تورينو في عام 2013، كشف فيه عن العديد من أسرار نشاطات المافيا. وتساءل كازيلي مستنكرا كيف لعصابات مسلحة أن تبقى في دولة طيلة عقود طويلة، مؤكدا أنه في مسعى المافيا لتنفيذ جرائمها فإنها تحتاج دائما إلى “خبراء” في مجالات متباينة، بين محاسبين وسماسرة عقارات وعاملين بالأجهزة المصرفية ومحامين ورجال دولة بمن فيهم القضاة. وتابع كازيلي قائلا، “في ظل تجنيد متعاونين من مختلف التخصصات، لم تعد المافيا الإيطالية في العصر الحالي مقتصرة على ممارسة أنشطة العصابات بشكلها المعروف قديما، مثل جمع الإتاوات والاتجار في المخدرات وغسيل الأموال، لكن تركيزها أصبح منصبا في الأساس على علاقاتها الخارجية التي توفر لها أدوارا مهمة مثل الحماية والتواطؤ”، لذا يمكن القول إن المافيا نجحت عبر السنين في تطوير نظام سلطة خاص بها. وواصل كازيلي هجومه على بعض الفاسدين من رجال الدولة المتعاونين مع عصابات المافيا، مؤكدا أن تلك المنظمات الإجرامية لا تكتفي فقط بتجنيد محققي الشرطة، فتنفيذ خططهم يحتاج غطاء أكبر من كبار الساسة، وهو ما اعتبره أحد أسرار استمرار حضور المافيا داخل إيطاليا وخارجها على مدار عقود طويلة، فوجودها يمثل حماية مصالح الكثير من الشخصيات الهامة. وكشف كازيلي أنه في العقود الماضية كانت منظمات المافيا تلجأ إلى التقرب من رجال السياسة الذين يمكن أن يحققوا مصالحها، لكن نشاطها في هذا الصدد انتقل في السنوات الأخيرة إلى مستوى جديد، وأصبحت المافيا هي من تزج برجالها في المؤسسات السياسية المختلفة لمزيد تسهيل أهدافها الإجرامية. ولم تكن خطط المافيا لاختراق الجهاز الإداري للدولة سوى مقدمة للسيطرة على قطاعات من الاقتصاد، فعلى سبيل المثال نجحت مافيا ندرانغيتا في السيطرة بشكل كبير على قطاع البناء والإنشاءات، ثم انتقلت إلى قطاعات أكثر تنوعا مثل الصحة والسياحة والوكالات التجارية والتخلص من النفايات، هذا إلى جانب أنشطتها التقليدية مثل المقامرة وتجارة الأسلحة، بحسب كازيلي. أحد أبرز أسرار قوة واستمرارية عصابات المافيا الإيطالية أيضا، هو أنها تتمتع بمرونة كبيرة في التكيف مع الظروف المحيطة بها، ونجح زعماؤها في تحقيق أقصى استفادة من ظروف العصر، لذلك فإن أنشطتهم شهدت عدة تحولات في شكلها ومضمونها لتناسب مستجدات الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المحيطة بهم. جاسبر موتولو: يجب أن يحكم على سياسي تم القبض عليه بتهمة التواطؤ مع مافيا بنفس العقوبة التي ارتكبتها المافيا جاسبر موتولو: يجب أن يحكم على سياسي تم القبض عليه بتهمة التواطؤ مع مافيا بنفس العقوبة التي ارتكبتها المافيا وسلطت صحيفة إل-جورنالي الإيطالية الضوء على مثل هذه التحولات، وقالت إن ما لا يريد اليسار الاعتراف به ولا وزير الداخلية الإيطالي السابق أنجيلينو ألفانو، هو أن هناك جيشا خفيا يحارب الاقتصاد الإيطالي من خلال إنعاش اقتصاد سري مواز قائم على تجارة المخدرات وتجارة البغاء وترويج المنتجات المقلدة التي تدمر شعار صنع في إيطاليا. واتهمت الصحيفة مافيتي كامورا وندرانغيتا بالسيطرة على كل سنتيمتر من جنوب إيطاليا، كما ساعدت الاتفاقيات التي عقدتها إيطاليا مع بعض دول حوض البحر المتوسط على عدم إحكام قبضة الحكومة الإيطالية على مياهها، ما أعطى الفرصة لعصابات المافيا من توسيع نشاطها إلى المشاركة في عمليات تهريب المهاجرين غير الشرعيين، مستفيدين من الاضطرابات السياسية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، وإقبال المهاجرين على إيطاليا بكثافة باعتبارها أحد أقرب شواطئ النجاة لهم. ووصفت الصحيفة المافيا بأنها أول جهة تتلقى المهاجرين غير الشرعيين الوافدين إلى الأراضي الإيطالية، فالصفقات التي تبرمها مع مهربي البشر تعد مصدرا عظيما للربح المادي ينعش اقتصاد المافيا، ويحقق ما يبحث عنه المهاجر غير الشرعي، وتقدم المافيا للمهاجرين عملا وراتبا ومأوى. وفي المقابل تجبرهم على العمل لمدة تصل إلى 12 ساعة، في أنشطة مشروعة كجمع محاصيل البرتقال، أو غير مشروعة مثل نقل شحنات المخدرات بين المدن الإيطالية. وحذرت جهات عديدة في إيطاليا من خطورة اقتحام عصابات المافيا لمجالات جديدة بهدف تحقيق الربح، أبرزها نشاطها في السنوات الأخيرة في تقليد السلع ذات العلامات التجارية المعروفة. وما يزيد من مخاوف اقتحام المافيا لهذا المجال أنها لم تقتصر فقط على تقليد الأجهزة الإلكترونية أو الملابس، بل توسعت لتقليد السلع الغذائية، ما يعني تصاعد الخطر إلى مستوى جديد. خطورة مضاعفة على الاقتصاد المحلي وصحة الشعب أيضا. وكشفت المعلومات التي توافرت حول ظاهرة ضلوع المافيا في تقليد البضائع عن مفاجآت كثيرة. وحسب بيانات صادرة العام الماضي 2017 عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإن البضائع المقلدة تمثل نسبة 2.5 بالمئة من إجمالي حجم التبادل التجاري العالمي، وهو ما يساوي أكثر من 461 مليار دولار، أما في أوروبا وحدها فتمثل البضائع المقلدة 5 بالمئة من إجمالي حجم التبادل التجاري، ما يشير إلى خطورة دور المافيا الإيطالية في هذا الصدد. ومع ما تمتلكه المافيا من شبكة علاقات مكنتها من توسيع حجم اقتصادها، أصبحت تدير عملية تقليد السلع بكامل مراحلها بداية من الإنتاج ومرورا بالنقل وحتى التوزيع على المستهلك، وبرزت مافيتي كامورا وندرانغيتا بالتحديد في هذا المجال، وعاونتهما مافيات صينية احترفت هذا النشاط. مافيا صينية محاكمة المافيا كابيتال في إيطاليا محاكمة المافيا كابيتال في إيطاليا تنشط المافيا الصينية في مجال تقليد البضائع داخل الأراضي الإيطالية، وتتركز في المناطق الصناعية بمدن مثل فلورنسا وميلانو ونابولي وغيرها، وتفوقت المافيا الصينية على نظيرتها الإيطالية كثيرا في ممارسة تلك الأنشطة، ما قد يكون أحد أسباب رواج البضائع الصينية زهيدة الثمن في الكثير من الأسواق العالمية، على الرغم من قلة جودتها الملحوظة. ولا تعتبر المافيا الصينية وحدها من ولدت من رحم المافيا الإيطالية الأم، لأن فكرة ظهور المافيا كشكل للجريمة المنظمة سرعان ما انتقلت من إيطاليا إلى الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر، في أعقاب موجات الهجرة من جزيرة صقلية إلى أميركا الشمالية، ولم تنقطع منذ ذلك الحين مختلف أشكال التعاون بين المافيا الصقلية ونظيرتها الأميركية. وانتقلت فكرة المافيا إلى الاتحاد السوفييتي آنذاك في خمسينات القرن الماضي في أعقاب وفاة الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين عام 1953، وانضم إليها العديد من فئات الشعب السوفييتي، بداية من ضباط مخابرات، ومرورا بعلماء ذرة وخبراء غسيل الأموال. وتفرعت المافيا من إيطاليا إلى الكثير من بلدان العالم، مثل هولندا واليونان والمكسيك وكولومبيا والبرازيل، ولم تسلم دول الشرق الأوسط من فكرة الجريمة المنظمة. فالتنظيمات الإسلامية، وعلى رأسها داعش حتى وإن رفعت شعار السعي نحو تحقيق أهداف دينية، إلا أنها تشابهت مع المافيا في محاولات تطوير شبكة علاقات سرية مع بعض الدول والشخصيات البارزة، بالإضافة إلى مسعاها نحو ضمان مصادر تمويل ثابتة معتمدة على أنشطة اقتصادية. ربما الفارق الجوهري بين داعش والمافيا الإيطالية، هو أنه أعلن الحرب على أنظمة الدول التي ظهر فيها، بينما أدرك زعماء المافيا خطورة هذا المنهج فعمدوا إلى الاندماج داخل أجهزة الدول باستقطاب الفاسدين فيها بدلا من محاربتها.
مشاركة :