(كـــأنــمـــا يــصَّــــعَّــــد فــــي الــــســــمـــــاء) يقول تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسلام وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) الأنعام: 125 هذه الآية في سورة الأنعام وهي مكية، ومعلوم أن القرآن في مكة كان من أولوياته الدعوة إلى التوحيد الخالص لله تعالى، وتأكيد رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وإقامة الأدلة على صدقه، وتأكيد حتمية البعث بعد الموت وإثبات الحياة الآخرة ونعيم الجنة وعذاب النار... إلخ، ومن الملاحظ أن الآيات التي اشتملت على حقائق علمية وإشارات قرآنية ودلالات كونية يكشف عنها العلم في عصرنا الحاضر غالبها مكية، ونحن نعلم أن الإسلام كان محاصرا في مكة، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه. رضي الله عنهم. مضطهدين في مكة، ومحاصرين حتى خرجوا مهاجرين، ولعل السر في ذكر أكثر الآيات التي تحمل الحقائق القرآنية والإشارات العلمية في القرآن المكي هو: أنه إشارة إلى انتصار الرسالة، وإيذان بانتشار الدعوة الإسلامية واستمرارها، وفيها من البشارة العظيمة، بانتصار الرسول وظهور دينه كما أخبر تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) الصف: 9، وفيها كذلك دليل على عالمية الدعوة الإسلامية، وعموم دعوة الرسول لكل الناس في كل زمان ومكان. يقول تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء: 107، وجاءت أقوال المفسرين شارحة للآية (كأنما يصَّعَّد في السماء) على أساس قبول الإيمان أو الإعراض عنه، يقول ابن جرير في تفسيره للآية: وَهَذَا مَثَلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ضَرَبَهُ لِقَلْبِ هَذَا الْكَافِرِ فِي شِدَّةِ تَضْيِيقِهِ إِيَّاهُ عَنْ وُصُولِهِ إِلَيْهِ، مِثْلُ امْتِنَاعِهِ مِنَ الصَّعُودِ إلى السَّمَاءِ وَعَجْزِهِ عَنْهُ، لأن ذَلِكَ لَيْسَ فِي وِسْعِهِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ. وتؤكد الآية حقيقة من أعرض عن ذكر الله وسلك طريق الضلال أنه كلما دُعي إلى الإيمان ضاق صدره بهذه الدعوة كمن يصعد في طبقات الجو العليا، فكلما ارتفع الإنسان عن سطح الأرض شعر بضيق التنفس لقلة الأكسجين. يقول تعالى: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه). الزمر: 22، وقال صلى الله عليه وسلم: إذا دخل النور في القلب انشرح وانفتح قيل: وما علامة ذلك؟ قال: التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار السرور، والاستعداد للموت قبل الموت. فأخبر أن التجافي عن الدنيا والزهد فيها دليل على نور القلب، ومن استنار قلبه أصاب في منطقه، ولم يخطئ في قول. معاني الأخبار للكلاباذي، وكما ورد في الصحيح الذي يرويه الإمام مالك في الموطأ عن محمد بن كعب القرظي قال. قال. معاوية بن أبي سفيان وهو على المنبر: أيها الناس إنه لا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع الله ولا ينفع ذا الجد منه الجد من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ثم قال معاوية سمعت هذه الكلمات من رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأعواد. وتقدم الآية (كأنما يصعد في السماء) معجزة من وجوه عدة، لم تُعرف إلا في عصر العلم الحديث، وهي تعرض حقيقة علمية ثابتة بأسلوب بلاغي دقيق، ومن وجوه هذا الإعجاز أولا: صعود الإنسان في السماء، فيوم سمع الناس بهذه الآية اعتبروا الصعود في السماء ضربًا من الخيال، وأن القرآن إنما قصد الصعود مجازًا لا حقيقةً، والواقع أن هذه الآية تعتبر نبوءة تحققت، في حياة الناس فيما بعد. ثانيًا: صحة التشبيه: فالارتفاع في الجو إلى مسافة عالية يسبب ضيقًا في التنفس وشعورًا بالاختناق يزيد كلما زاد الارتفاع (يصّعَّد)، حتى يصل الضيق إلى درجةٍ حرجةٍ وصعبة جدًا أما سبب ضيق التنفس فيعود لسببين رئيسيين هما. 1- انخفاض نسبة الأوكسجين في الارتفاعات العالية، فكلما زاد الارتفاع نقص الأكسجين أكثر حتى إذا وصل إلى درجة انعدامه، يفقد الإنسان وعيه كاملا بعد 2: 3 دقائق ثم يموت، وهذه الحقيقة لم يتوصل إليها الإنسان إلا في عصرنا الحاضر، فسبحان من هذا كلامه. 2- انخفاض الضغط الجوي: إن أول من اكتشف الضغط الجوي، هو العالم تورشيلي وقدّره بما يعادل ضغط عمود من الهواء المحيط بالأرض على سطح 1سنتيمتر مكعب منها وهو يساوي ضغط عمود من الزئبق طوله 67 سم، وينخفض هذا الضغط كلما ارتفعنا عن سطح الأرض ما يؤدي إلى نقص معدل مرور غازات المعدة والأمعاء، التي تدفع الحجاب الحاجز إلى الأعلى فيضغط على الرئتين ويعيق تمددها، وكل ذلك يؤدي إلى صعوبة في التنفس، وضيق يزداد حرجًا كلما صعد الإنسان عاليًا، حتى أنه يحدث نزوف من الأنف أو الفم تؤدي أيضًا إلى الوفاة. لقد أدى الجهل بهذه الحقيقة العلمية المهمة التي أشار إليها القرآن، إلى حدوث ضحايا كثيرة خلال تجارب الصعود إلى الجو سواء بالبالونات أو الطائرات البدائية، أما الطائرات الحديثة فأصبحت تجهز بأجهزة لضبط الضغط الجوي والأوكسجين.
مشاركة :