دمشق – رغم كل أوضاع الحرب السورية، مازالت هناك مساحات للفعل الثقافي والمسرحي في بعض المناطق الدمشقية، فمسارح العاصمة التقليدية، كـ”الحمراء” و”القباني”، واصلت نشاطها المسرحي رغم ما تعيشه سوريا من فوضى ودمار. فهذا الصراع الدائر على مساحة التراب السوري ينعكس صراعا في العائلة التي يقدّمها المخرج المسرحي السوري أسامة غنم من خلال ممثليه؛ إيهاب شعبان في دور مهيار، وأخيه جان دحدوح في دور آدم، بالإضافة إلى المسوّقة الإنتاجية مي سليم في دور ديانا، في مسرحية “دراما” المأخوذة عن نص مسرحية “غرب حقيقي” للكاتب الأميركي سام شيبارد. ويمكن تقسيم الصراع في المسرحية إلى مستويين، الأول لا يتضح من خلال الفعل المسرحي وإنما من خلال السرد، والثاني يتّضح كثيرا من خلال الفعل المسرحي على منصة مسرح “أبي خليل القباني” بالعاصمة السورية دمشق عبر الصراع الذي يظهر بين الأخوين آدم ومهيار. عندما يلتقي الأخوان في منزل الأم الدمشقي يخاطب مهيار أخاه آدم، قائلا بالعامية السورية “صوت الخبط هون بعيد.. حوالينا مو علينا”، فالعاصمة دمشق تعيش على أصوات القذائف والضرب و”الخبط”، ويتعمّق هذا الصراع العام عندما يسخر مهيار من فكرة آدم “يا رجل قد يحتجزونك وأنت تتمشّى ليلا!”، فيرد مهيار “بسم الله! بسم الله! أنا؟ يحجزوني؟ وأنت ماذا يفعلون بك؟ هل تعتبر نفسك أفضل حالا مني! انظر إلى نفسك.. هل تعتقد أنهم سيتركونك تمرّ؟”. الصراع بين السلطة والمواطنين يتخذ في الليل شكل الاعتقال في لحظات غير مضمونة من حياة العاصمة دمشق الصراع بين السلطة والمواطنين يتخذ في الليل شكل الاعتقال في لحظات غير مضمونة من حياة العاصمة دمشق فجماعة التعبئة في الليل إن لم تكن من حراس الحواجز، يكون ثمة أمن، وهذا يوضّح أن الصراع ما بين السلطة والمواطنين يتخذ في الليل شكل الاعتقال والسجن في لحظات غير مضمونة من حياة العاصمة السورية دمشق، وتظهر آثار هذا الصراع من خلال شرح مهيار حكاية الكلاب الشاردة في شوارع “مشروع دمر” بالضاحية الدمشقية “عمال البلدية كانوا في العادة يقتلون الكلاب الشاردة، لكن ثلاثة أرباع منهم ماتوا والبقية إما أصبحوا مسلحين أو نزحوا، لذلك لم يعد من رادع للكلاب، فانتشروا في الأرض”، وهكذا نجد آثار الصراع العام والمسلح في دمشق بالعرض المسرحي. ويتجلى هذا الصراع في الاشتباك الخاص بين الأخوين قبل وجود الوسيطة المنتجة ديانا على سيارة آدم واستخدامها من قبل مهيار، ويتعمق أكثر هذا الصراع بعد سهرة مهيار مع ديانا ولعب “السنوكر”، حيث يعرض عليها فكرته لإنتاج مسلسل درامي، وتوافق على الفكرة مقابل تهميش فكرة آدم ومسلسله الذي جاء من بيروت ليكتبه هنا، إذ تجد ديانا أن فكرة مهيار قابلة للبيع والإنتاج أكثر من فكرة آدم. وعندما يعرضان -ديانا ومهيار- على آدم أن يكتب السيناريو يرفض ذلك بشدة، ليعود ويقبل بالعمل عليه مقابل أن يعيش مع أخيه على بوابة الصحراء، وهي الحياة الحقيقية التي يحلم بها آدم، في حين يسعى مهيار لكتابة مسلسله بيده بعد أن تحوّل من سارق شاشات إلى كاتب سيناريو. وخلال فترة غياب الأم بمصر يتحوّل البيت إلى مكب نفايات، حيث لا تستطيع الأم الحياة فيه، فتذهب إلى فندق في قلب دمشق، ويستمر صراع الأخوين الجسدي العنيف حتى نهاية العرض. ومسرحية “دراما” هي الجزء الثالث من ثلاثية بدأها أسامة غنم سنة 2013 بمسرحية “العودة إلى البيت” والثانية “زجاج” سنة 2015 عن “لعبة الحيوانات الزجاجية” لتينسي وليامز، و”دراما” سنة 2018، وفي هذه الثلاثية يتناول المخرج تحوّلات المجتمع السوري من خلال مؤسسة العائلة عندما تغيب الأم ويغيب الأب ويقتتل الشقيقان استحضارا لقابيل وهابيل في صراعهما عن سيناريو مسلسل، وكأنه مسلسل الموت الذي يعود كل يوم في شكل جديد. عمل المخرج أسامة غنم على نحت لغة جسد خاصة بالممثل إيهاب شعبان مشبعة بحالة صرع، حيث يتشنج كثيرا عندما يغضب إلى درجة أنه لا يستطيع أن يكبح ذاته أو يهدئها عندما يبلغ غضبه درجة حادة جدا من الانفعال، ويصرخ منفعلا عندما يتذكر كيف كانت أمه تفرض عليه أن يأكل في صحن مرسوم عليه صورة القذافي. وتظهر انفعالية وتشنج هذه الشخصية العُصابية عندما يكسر جهاز “اللابتوب” حتى يفتته قطعا صغيرة، لأن الأفكار التي يريد أن يحوّلها إلى سيناريو تتوقف عن التوارد لمجرد أن آدم لا يريد أن يكمل كتابة السيناريو في تلك اللحظة، ويرغب في شرب فنجان قهوة بالدلال التي سرقها، إذ أنه يغلي القهوة في دلتين فقط رغم وجود أربع دلال مسروقة، وهذا يؤشر على مدى شهوانية آدم للحياة، حيث ينتقل للغناء والعزف الإيقاعي على دلال القهوة. وفي مشهد ما قبل النهاية نجد عُصابية جديدة تحكم سلوك آدم هي عُصابية الخوف من ردة فعل مهيار في حالة تركه له بعد أن صرعه أرضا دون تعهد منه بعدم متابعة الصراع الجسدي، فالخوف في هذه اللحظات صانع العُصاب والبطولة للوصول إلى حالة استقرار وتعهد بعدم استمرار الصراع بينهما إلى الأزل. ورغم كل هذه العصابية والتشنج اللذين يحكمان أداء وجسد مهيار، إلاّ أنه مع دخول والدته يتحوّل إلى حمل وديع تداعبه أمه، ويخطب ودها كأي طفل يعاني ما يعانيه ويحتاج إلى ثديها ويدها ليهدأ. وفي ظل هذا الأداء العُصابي المتناوب بين الشخصيتين تدخل الأم بكامل حياديتها البعيدة عن الصراع بين الولدين، لتذهب إلى فندق تاركة لهما استمرار الصراع بينهما، وكأنها لا تحمل أي عاطفة تجاههما. تميّز المخرج أسامة غنم بإبراز كافة التفاصيل الخاصة بالأداء، إذ جعل من إمكانية تحوّل شخصية آدم من فضاء ثقافي عام، وهو دراسة الآداب المسرحية، إلى بيئة خاصة تعود إلى أصول العائلة، والتي يظهر فيها البخل العاطفي بعيدا عن الدراسة الأكاديمية المتواضع. وتبقى مشكلة العرض في طوله الزمني (ثلاث ساعات) وإيقاعه البطيء حيث أضعفا حالة التلقي لدى جمهور المسرح، رغم كل الجهد الذي بذله الممثلون والمخرج لأفضل حالة تلقي في مسرحية “دراما”.
مشاركة :