مثلما كان محط اهتمام وإثارة واختلاف وهو حي، كان (برنارد لويس) مثار جدل ونقاش عريض عند رحيله الأسبوع الماضي عن عمر تجاوز القرن. لم تكن وفاته حدثاً عابراً فقد ظهرت العديد من المقالات التي تتحدث عن سيرته الأكاديمية المبكرة وإنتاجه الثري ومؤلفاته التي جاوزت العشرين، فضلاً عن العديد من المقالات المحكّمة أو الإعلامية وعشرات المقابلات التي أجراها لعدد من الصحف والفضائيات والإذاعات العالمية. ركزت معظم تلك المقالات على مواقفه من الإسلام والتطرف و الكيان الاسرائيلي ومشروع تقسيم المنطقة الذي يُنسب إليه. فما لم يكن محط اهتمام معظم ما سبق هو حقيقة موقفه من الدولة السعودية عبر مراحلها التاريخية الثلاث، والشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله ودعوته الإصلاحية التي قامت عليها هذه البلاد المباركة وكل ذلك قصة تستحق أن نقف عندها طويلاً.لا ريب أن البروفيسور لويس لم يكن مؤرخاً تقليدياً فقد تمتع برصيد معرفي واسع وثقافة غزيرة ومعرفة عميقة عن الإسلام ديناً، وتاريخاً وإرثاً. كما امتلك لغة تأليف سلسة، مرتبة ومحترفة في آن معاً، و تمتع بمنهجية محترفة في النقاش و التحليل، وإثارة الأسئلة واستنباط النتائج غير أن لغته في إطلاق الأحكام وتبنّي النتائج لم تكن على منوال صفاته السابقة. ويبدو أن انتقال هذا الرجل من دور “المؤرخ المنظّر” إلى ” المفكر المؤثر” خاصة بعد انتقاله إلى الولايات المتحدة أثره الكبير على انتاجه الفكري، فقد انحاز لويس في كثير من أحكامه إلى لغة التجنّي والأحكام المسبقة ومن يقرأ آراءه حول قضايا التسامح الديني، الأقليات والأثنيات في الإسلام، الضرائب، و المواطنة والتنظيم الاجتماعي وقضايا أخرى يلمس ذلك. ولم تكن الدولة السعودية بإرثها التاريخي والفكري الممتد لثلاثة قرون استثناء من آراء لويس السابقة ففي كتابه عن أزمة الإسلام ” The Crisis of Islam: Holy War and Unholy Terror” لم تكن الحركة الإصلاحية (الوهابية كما يطلق عليها) التي قامت عليها هذه البلاد إلا “محاولة للرجوع إلى الوراء ورفض الحداثة”. بل نجده يتجاوز ذلك إلى اتهام الدولة السعودية الأولى بتبنّي “مذهب جديد” حاولت نشره بقوة السيف وبنهب كربلاء وتكفير السلطان العثماني. ويبدو هنا أن لويس قد تأثر كثيراً بتخصصه في التاريخ العثماني فنجده يتبنّى الرواية العثمانية الرسمية التي شاعت في أقاليمها العربية بالشام ومصر والعراق والتي سعت إلى ترسيخ صورة ذهنية سوداء مغايرة لحقيقة الدولة السعودية والدعوة الإصلاحية التي قامت عليها. و في كتابه الآخر أين الخطأ “What Went Wrong, Western Impact” الذي أصدره عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، لا يتوقف لويس عن تسويق الانطباع السلبي عن المملكة فقد زعم أنها دولة “لا تملك دستوراً مكتوباً” متجاهلاً بذلك أن للدولة نظاماً أساسياً للحكم شمل كل ما تحتويه دساتير الدول الحديثة من نصوص وأحكام وتقسيمات عالجت كل مسؤوليات الدولة السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والتنموية وغيرها. وفي مقابلتين إعلاميتين أجرتها معه شبكة التلفاز الأمريكية ذائعة الصيت سي-سبان (C-Span) عبر برنامجها الحواري (In Depth ) عامي 2002م و 2003م عبّر برنارد لويس عن نظرته السلبية للدولة السعودية بوضوح أكثر في أكثر من مناسبة فنجده مرة يصف الدولة السعودية الأولى والحركة الإصلاحية بـ” حركة راديكالية متشددة”, وفي وصف آخر لا يرى فيها أكثر من “مجموعة هامشية متطرفة خالفت الإسلام الحقيقي المتسامح الذي عرفه العالم منذ الدعوة النبوية”. ثم يستطرد زاعماً أنها لم تتمكن من تحقيق تأثير كبير في معظم بلدان العالم الإسلامي إلا بعد وصول الحكم السعودي المعاصر إلى الحجاز وثورة النفط. والحقيقة أن ذلك مجافاة للحقائق التاريخية فقد كان لحركة الشيخ ابن عبدالوهاب بالغ التأثير على حركات إصلاحية أخرى ظهرت في بقاع مختلفة من العالم الإسلامي كالحركة المهدية في السودان والسنوسية في ليبيا، وحركة ابن باديس في الجزائر وحركة “الباريلي” في الهند.ولعل المتتبع لاستنتاجات وأحكام لويس تلك برنارد لويس يجد أنه افتقد في كتاباته وآراءه السابقة روح المؤرخ الحيادي الحصيف الذي يتوخي الوقوع في شراك “الهوى” او “الميول” ويبحث في مصادر الطرف الآخر.خاتمة القول أن ما تركه برنارد لويس من إنتاج لا غنى للباحث عنه سواء في تاريخ المنطقة أو في دراسة أوضاعها المعاصرة ليس لقبول ما تضمنته من آراء ولكن لكي نفهم أراء هذه النوعية من المفكرين الغربيين تجاه قضايانا. د. عوض بن ناحي العسيريأكاديمي سعودي (متخصص في التاريخ الإسلامي المبكر، تاريخ الأقليات، الحوار الإسلامي-المسيحي)
مشاركة :