سعيد عقل: شاعريةُ اليقين

  • 12/5/2014
  • 00:00
  • 19
  • 0
  • 0
news-picture

لا يعصمُ المجدُ الرجالَ وإنما كان العظيمُ المجدَ والأخطاء م .م. الجواهري طوى قرناً من الزمان ومضى، تأبط شعراً وفكراً ومواقف صادمة ورحل إلى عالم أقلّ صخباً وجدلاً لمن ظلَّ حتى داخل نعشه يثير جدلاً ونقاشاً، ولئن كان بعض ما قيل فيه أو كُتب عنه غداة رحيله خارجَ حدود الأدب وحرمة الموت، فإن ما عدا ذلك واجب وضروري ومُلّح، هو نفسه لو أطل من شرفة غيابه لما رضيَ بغير ذلك. ليس وارداً اكتفاءُ صاحب «لبنان إن حكى» بمرور كلمته عابرةً مألوفةً عاديةً كأنها من سقط الكلام والمتاع، بل إن سجالاً عميقاً راقياً صريحاً يمكن أن يُطهّر قصيدته ويصفّيها من شوائب طاولتها بفعل خوضه معترك السياسة والإيديولوجيا. يُختلَفُ مع سعيد عقل ولا يُختلَف عليه، لنا أن نرفض جُلَّ ما قاله في السياسة، خصوصاً زمنَ الاجتياح الإسرائيلي للبنان (عاد وقال ما يناقضه)، لكننا لا نستطيع البتة تجاوز قيمته الشعرية والقفز فوق تجربته المفصلية في الشعر العربي المُعاصر. النحّات الماهر بنى عمارة شعرية شاهقة مُتاح دخولها من أبواب رحبة متعددة فيها لكلّ ما يشاء أو يريد، كأن ثمة أكثر من سعيد عقل واحد، وإن كان ثمة واحد لا يتغير: ذاك البرناسي الرومانسي (لاحظ التضاد) بكل خيلائه وأخيلته، كأنه كائن أسطوري اخترق الأزمنة باحثاً عن أثر فينيقيا فينا، التاريخ طوع قلمه وبيانه وبنانه، يستدعيه متى شاء وكيفما شاء، يتكىء عليه ليضيف إلى جغرافيا لبنانية ضيقة مساحات جديدة وأمداء لا متناهية، ألم يضع–في مطلع قصيدته لشولوخوف- نهر البردوني الزحلاوي الصغير في مصاف نهر الدانوب العظيم؟ لا حاجة لقول المزيد في ما أعطاه للشعر العربي، أو لما نظَمه في شخصيات ورواد، أو في عواصم ومدن عربية حلمنا جميعاً أن تكون أكثر إشعاعاً وحرية فإذا بها فريسة موت وخراب، ونَهب فتن قاتلة مدمرة. ما نحتاجه قراءات متأنية في شعره ولغته، في أثره على الشعر والشعراء، في تطويعه العربية الفصحى وترويضها عجينةً ليّنة بين يديه، في صياغاته المبتكرة لبنية بيت الشعر العربي العمودي، في نقله شعر المحكية اللبنانية من حال إلى حال، وكم شكلت تجربته متكأً لحداثة شعرية رفضها ولم يعترف بها. براءته منها ليست غريبة، لقد تبرأ من جمال كثير اقترفه بملء حبره وقلمه، نكره ثم عاد إليه. يمكننا التوقف عند منازلاته الشعرية حتى لمن مدحهم وفاخَر بهم، (مطالعه في قصيدتيه لأحمد شوقي وشولوخوف خير مثال)، أو عند غزلياته العذبة الرقيقة مُنزّهة المرأة عن رغبات ونزوات لأن العذراء مريم مَثَله ومثاله، وكذلك أمّه ملاكه وحبّه الباقي إلى الأبد، مُعرِضاً (بكسر الراء) عن كونها أنثى تضجُّ برغبة الوصال. هو شاعر يقين أكثر منه شاعر شكّ، شاعر أجوبة أكثر مما هو شاعر أسئلة، يُحلّق بثبات فوق واقع متغير. مفكّر وعالم لاهوت(وفلكيّ حسبما كان يُضيف) قبَض على حقائق ومسلّمات، لا يمكنك مساءلته في قناعاته أو طرح شكوك وعلامات استفهام. مرةً قلتُ له: كلُّ المراجع التاريخية تذكُر أقليدس يونانياً لا فينيقياً من لبنان كما تقول، أجابني بثقةٍ معهودة لديه: «مش حاطط إجرو باليونان»، أي لم تطأ قدماه اليونان. هكذا كانت رؤى سعيد عقل راسخة ثابتة متجذرة في وعيه ولاوعيه في آن، لا تحتمل بحثاً وتشكيكاً، لعلنا هنا نستطيع طرح سؤال جدير بنقاش: هل تحتاج الأوطان الصغيرة جغرافياً ما يمنحها أدواراً ولو من أحلام مستحيلة وعشق مُفاخر كما هي حال مَن رفعَ وطنه إلى حيث النجوم؟ أم ثمة خشية من ارتداد الأمر بغير ما يرجو صاحبه ويتمنى؟ يبقى سعيد عقل شاعراً مفصلياً، أبدع شعراً خالصاً مصفى وترك ذخيرةً من قصائد وأغنيات. غداً بعد نضوب الدمع وهدوء السجال، تظلّ قصيدته نجمةً مضيئة على مسالك شعرية طويلة موحشة شاقّة شيّقة.

مشاركة :