«الرحلة» هو الفيلم الروائي الثالث له. لمحمد الدراجي حكاية على ما يبدو مع السفر، ففيلمه «ابن بابل» فيه فكرة رحيل كذلك. «لا نعدو كوننا رُحّلاً في هذا الكون»، يعلق: «نسكن أمكنة ونحلم بأخرى، وخلال مسيرتنا نظن أننا نمتلك كل شيء لكننا نبقى في النهاية غرباء ورحالين». التقيت المخرج العراقي في مهرجان فجر 36 بعد عرض فيلمه في مسابقة الفيلم الآسيوي. مفهومه حول الرحلة يتجسد في أفلامه في شكل واع أو ربما لا واع كما يقول. فشخصياته تعاني مشاكل بين رحلتها الداخلية والخارجية «في دواخلنا شخصيتان واحدة نصنعها والأخرى يصنعها الآخرون». هو نفسه في رحلة وغربة منذ الصغر، ما أثّر في طريقة تفكيره فللأمكنة تأثيرها «البشر يصنعون المكان أو الإحساس به. في كل مكان أذهب إليه أخلق نوعاً من الروتين خاصاً بي، انتماء ما... لكن المكان الأصل هو بغداد وفي أمكنتي أحاول خلق ليس روتين بغداد بل روتين محمد في بغداد». تلك اللحظة المصيرية في»الرحلة»، انتحارية شابة تدخل محطة بغداد لتفجيرها في نفس اللحظة التي يُعدم فيها صدام حسين، «لحظة مصيرية تاريخية» اختارها الدراجي لما تمثله من أهمية في تاريخ العراق، «إنه يوم فارق يجب التوقف عنده. اخترت بالضبط لحظة إعدامه، أي السادسة وخمس وعشرون دقيقة، وهي لحظة دخول «سارة» المحطة وإمساكها «مال التفجير» (زر تفجير الآلة). إنه تاريخ مهم لنا، صدام شخص ولكنه أيضاً تاريخ للعراق الحديث بكل سيئاته. ثمة أسئلة تستحق النقاش حول ردود الفعل من هذا الحدث، ففيما فرح البعض، أقام بعض آخر مجالس عزاء. فيما يخصني رغبت في رصد استمرارية الحياة بعدها، كيف تنتظر عاشقة حبيبها وكيف يعاني بعضهم من الأسر والفقدان والتشرد والنزوح... كيف يستمر النصاب والشرطي في مشاغلهما... رصدت مجموعات متناقضة من عراقيين ضحايا لما يحصل وهو ليس بالأمر السهل». ما هو غير سهل كذلك اختيار امرأة انتحارية! فكيف راودته هذه الفكرة؟ يعود بالذاكرة إلى عام 2008 خلال تحضيرات فيلم «ابن بابل». وقع نظره في الجريدة على صورة لبنت عراقية في مركز للشرطة، ثيابها ممزقة ومربوطة إلى حائط حيث كان شرطي يقصّ حزاماً ناسفاً مركباً على جسدها. يسترجع اللحظة: «كانت في عيونها نظرة خوف أذهلتني. لفتت الصورة انتباهي وشرعت بالبحث عن موضوع الانتحاريات، كنت أعتقد أنه ليس ممكناً لامرأة أن تقوم بهذا، لا سيما أني كنت في الوقت ذاته بصدد العمل على موضوع أم تبحث على ولدها المفقود في الحرب. المرأة بنظري مغيّبة وضحية فكيف تفعل هذا؟ هكذا بدأت الحكاية...». شرع الدراجي بكتابة السيناريو إلى أن التقى بانتحاريات في سجن النساء، فغيّر النص: «كن صبيات جميلات يمكن لهن أن تكنّ زوجات أو حبيبات... لفتت نظري واحدة منهن لم ترمش وهي تحدق بي، أثارني موقفها، بعد حديثي معها غيرت نصي!». استعان أيضاً بتجربته الشخصية حين خُطف في 2004، «لكتابة السيناريو، استعدت شعوري لحظات ما قبل الموت والمسدس مصوب إلى رأسي. نقلت هذا الشعور للشخصية في الفيلم وهي تحاول الضغط على زر التفجير. كانت هذه اللحظة الحرجة عاملاً مهماً في عملية بناء الفيلم». تعابير الوجه اعتمد المخرج تعابير الوجه أكثر من اعتماده على الحوار لإظهار ما يدور في المخيلة، فجاء هذا متقشفاً وبسيطاً. يعيد لجوؤه إلى هذا الأسلوب إلى صمت الانتحارية التي التقاها في السجن «حين كنت أطرح السؤال كانت تحدّق بي. شخصية مركبة جداً ذكية ومباشرة، جملها بسيطة لم تُشرْ فيها إلى الدين. وضعني هذا في صراع عند التحضير للفيلم، في خوف أيضاً، إذ لم أرد للشخصية أن تثير مشاعر الحبّ ولا الكره نحوها، كان الأمر معقداً جداً!». أما بالنسبة لشخصية سالم وكان رهينة الانتحارية في الفيلم، فهو «إنسان بسيط وسيتكلم بطريقته وليس كمثقف. إن لم يكن الحوار على مستوى قوة الفكرة برأيك فأنا أرد بأنه واقع الشخصيات». نتطرق للحديث عن شخصياته التي لم يعرف المشاهد بماضيها، يعلل الدراجي أن ما يهمه هو اللحظة وأنه لو تعمق أكثر في الشخصيات لأدى هذا إلى مشاكل، ولكان بحاجة إلى أجزاء للحديث عن طفولتها وخلافه... «الوقت قصير، يتابع، لقد أهملت الكثير من الأشياء وكان هذا خياراً، آخذكم برحلة افتراضية، وأدعكم تفكرون وتطرحون الأسئلة والأجوبة. لم ألجأ إلى الرمزية ولكن أيضاً لم ألجأ إلى الشرح. أقول للمشاهد اجمع ما تريد وخذ ما تريد ولو أحببت شيئاً ما عليك فهمه وتخيله وتحليله. في شخصياتي جانبان المذنب والضحية، وكان تساؤلي في الفيلم كيف يمكن للإنسان أن يصبح شريراً؟». سارة وسالم والمحطة في سيناريو يتطرق إلى موضوع على هذه الدرجة من الخطورة كان لجوء الدراجي إلى المواقف الطريفة نوعاً من التنفيس وتخفيف التوتر عن المشاهد، طرافة جاءت من لقاء الممثلين بالشخصيات الحقيقية قبل التصوير، لا سيما سالم (عامر علي جباره في أداء مقنع)، البطل الرئيسي الذي يتعامل مع الدراجي منذ فيلمه «تحت رمال بابل». أما سارة (زهراء غندور في أداء لافت)، فقد التقاها بالصدفة «كنت أصور «تحت رمال بابل»، وجاءت زهراء لتصور في المكان ذاته، أحسست من عينيها أنها من أبحث عنه لدور سارة». لقد أضاف اختيار موقع الحدث وهو محطة بغداد، تعقيدات لموضوع هو معقد في الأصل، فالحرب أثرت كثيراً في البنية التحتية ومقومات العمل السينمائي في العراق، كما يشرح الدراجي: «في كل مرة أنتهي فيها من فيلم، بل أحياناً أثناء التصوير، أقول هذا آخر فيلم أو مستحيل أن أكمل! إنما ثمة قوة جبارة تدفعني للاستمرار. في 2016، كانت داعش على أبواب بغداد والتوتر يسيطر على الجميع فكيف أدخل معدات التصوير إلى مكان كهذا؟ كان يمرّ في كل المحطة فقط قطار واحد من البصرة وإليها، فخلقت الحياة فيها من جديد». محطة بغداد مكان له تأثيره في المخرج لما تتمتع به من أجواء خاصة، فهي «صورة مصغرة عن العراق والشرق الأوسط كذلك. إنها أول محطة في الشرق، من وقت الأتراك، وفيها قبة مصممة على شكل خوذة جندي بريطاني!». محمد الدراجي «هرب» من العراق منتصف التسعينات وهو في الثامنة عشر، لم يكمل دراسته للمسرح وللفنون السينمائية. لكنه في هولندا تابع الدراسة وعمل في التلفزيون ثم أكمل دراساته العليا في بريطانيا وعمل هناك مدير تصوير. رجع إلى العراق في 2003 وبدأ يحضر لفيلم طويل. كان يشعر -كما عبّر- باللوعة لبعده عن البلد، «هذا بلدي إنه محتاج لنا لنبنيه ونقدم ما نستطيعه له. حين أنجزت فيلمي «أحلام»، لم تكن هناك دولة ولا حكومة وكنا في زمن الحرب حين عرض. وكان «الرحلة» أول فيلم عراقي يعرض تجارياً بعد 25 سنة. لقد قمنا بحملة مهمة لإرجاع السينما العراقية للجمهور البسيط، بقي الفيلم خمسة أسابيع في الصالات وهو إنجاز بعرف اليوم. في السابق كانت هناك عروض خاصة فقط وكنت قبلها أجول بالفيلم!». بدأت تحضيراته «للرحلة» من 2010 حيث فاز النص كأفضل سيناريو في مهرجان «بوسان»، وأيضاً اختير السيناريو عام 2011 في أتيليه «كان». أسس الدراجي مركزاً لتدريس السينما للشباب إذ «لا أسس لصناعة السينما في العراق». ومع ملاحظتنا لكثرة في إنتاج الأفلام القصيرة هناك، يشير إلى أنها «كلها أفلام طلابية وليست صناعة سينمائية حقيقية». شارك المقال
مشاركة :