ما فتئ النقد الفكري العربي يطرح بقوة سؤالا مهما وهو: هل يمكن أن يتم بناء الذات والوعي بها بمعزل عن وجود الآخر؟ وللإجابة عن هذا السؤال كثرت محاولات النقاد والمفكرين العرب وخاصة منذ بدايات تشكل ما يسمى في الأدبيات التاريخية العربية بعصر النهضة. في هذا الخصوص وجدت محاولة الناقد ودارس الفلسفة الدكتور أنطوان سيف التي أبرزها في مؤلفه “وعي الذات وصدمة الآخر في مقولات العقل الفلسفي العربي”، تستحق الاهتمام. فهو يرى أن الآخر، سواء كان حضارة مادية أو ثقافية أو روحية مجاورة لنا أو بعيدة عنا أو نموذجا مغايرا لنموذجنا في أسلوب الحكم وغير ذلك، هو ضرورة لتحريك طاقاتنا الحيوية من أجل صنع فرادتنا الخاصة بنا، وهكذا يفصح أن “الهوية الثقافية تبرز خصوصا بتميز أنظومتها، وأغلب الأحيان لغتها، عن أنظومة ثقافية أخرى”. ومن ثم يربط الدكتور أنطوان سيف بين اكتساب الوعي بالذات وبين بناء الفكر النقدي بآلية مهمة وتتمثل في “انكفاء الوعي إلى ذاته، بعد ارتداده عن الموضوعات الخارجية التي كان يشرف عليها بثقة مفرطة”. وتأسيسا على هذا فإنّ مشروع بناء الوعي بالذات يتطلب إدراك الموضوعات الخارجية أولا ومن ثم التحرر منها ثانيا وذلك حينما تتحوَل إلى عقبة تحول دون ضبط وفرز المشكلات وتسدَ أمامنا أفق الرؤية. أما ما يتعلق بالاحتكاك الثقافي بين الثقافات فيرى سيف أنها مثل “نتيجة آثار حرب” التي تترك كدماتها وآثارها في الوجدان والسلوك، وفي هذا السياق يقدم تعريفا للمثاقفة باعتبارها “التبدل الحاصل في ثقافة جماعة، بسبب تقبَلها عناصر ثقافة جماعة أخرى”، حيث “يكون هذا التبدل متبادلا ولكن غير متعادل في الغالب”. وهكذا نفهم أنّ التحذير الذي يلوّح به بعض نقاد المثاقفة جراء زعمهم أنها ليست بريئة دائما، حيث يمكن في تقديرهم أن تؤدي إلى ضياع شبه تام للثقافة الضعيفة، لا يلغي حقيقة وهي أن هناك “ثقافات عديدة غير مدونة بالكامل بوقائعها وأسبابها وأزماتها إلا أنها بادية في السمات والعناصر التراثية المشتركة للحضارات المختلفة اللاحقة ومنها على وجه الخصوص اللغوية والدينية والاجتماعية”. وحين يتأمل الدكتور أنطوان سيف بنية الوعي العربي المعاصر بدء من حقبة عصر النهضة الحديثة إلى يومنا هذا فإنه يسجل الملاحظة التالية “وهكذا تم إدخال الغرب كمقولة أساسية في الوعي العربي الحديث بمختلف تياراته، فالغرب هو التحدي والنموذج، وهو الآخر الذي تحوَل إلى أزمة، والاصطدام به أثناء المرحلة الكولونيالية شكّل ولا يزال يشكّل قضية كبرى للعقل العربي”، لأن “الغرب المتقدم والمتطور يمثل نموذجا من ناحية، وهو النموذج المهيمن”، في الوقت الذي بقي “النموذج العربي متخلفا فكريا ومؤسسات وتقنية بالمقارنة مع النموذج الأوروبي”.
مشاركة :