ناصر الظفيري: تحّول قلب الجهراء الطيب إلى روح موحشة

  • 6/8/2018
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

إعداد ليلاس سويدان | أن تكتب عن مدينة يعني أن تتبع أثر التاريخ وتحولات المجتمع ومسارات الإنسان والبنيان، وأن تلتفت إلى تقاطعات الزمن والحدث والذاكرة، وأن تلج إلى حواضن الحكايا ومصائر البشر، وأن تحضر سيرتك الذاتية ضمن هذا المدى المكاني في زمن ما، برؤية خاصة جدا تتجاوز ما يكتبه علماء الاجتماع والانثروبولوجيا، إنها كتابة ذاتية عن مدينة متعددة الأوجه قد لا يتشابه حولها نصان. بعض الروائيين كتبوا عن مدن بعينها وأصبحت سيرهم ونتاجاتهم مرتبطة بها،. بعض الكتابات الأخرى عن المدن كانت حقلا من حقول الاستشراق. ولكن تظل المدينة في كل كتابة عنها بأي جنس أدبي أو غيره، ذلك اللغز الذي له ألف حل والفضاء المكاني الذي نصنعه ذهنيا من الواقع والخيال والوجدان. في هذه الزاوية يروي بعض الكتاب العرب سير مدنهم التي كان بعضها أحيانا فضاء سردهم الروائي. الكتابة عن مدينتك لا تشبه الكتابة عنك. أنت تكتب عن المكان الذي أثث شخصيتك وشكل بناءها الأول. المكان الذي عاصرته زمنيا ليكون معلمك الأول وعالمك الأول. الجهراء هذه القرية الساحرة الطيبة التي كانت تضج بأصوات مضخات المياه وهي تسقي مزارعها ومساحاتها التي تمنحها متنفسا لم يعد موجودا في هذا القلق الخرساني الذي انتشر ليغتال الأخضر في الأرض والطيبة في الناس البسطاء. الجهراء لم تكن قريتي فقط، كانت عالمي الجميل الذي مارست فيه شيطنتي وأسست فيه مكتبتي الأولى وملعبي الأول وصداقتي الأولى وحبي الساذج الأول. تركت على رمضائها آثار أقدامي وأحيانا دمي ونحن نعاند مسامير الأرض في ألعابنا القاسية. كان الناس أطيب من ناسها اليوم وأكثر حميمية في علاقاتهم. كانت أعراسها البدوية أكثر براءة وأكثر فرحا وبهجة. ما أحن إليه اليوم هو تلك البساطة بين الجيران وحياتهم التي يشتركون فيها ، كانت النساء يعملن كأنهن يعشن في بيت واحد. يجتمعن على تنانير الخبز أو على «السدو» تساند اليد اليد، يقتسمن الفرح والحزن بأبوابهن المفتوحة دائما للضيوف والريح. اجتياح الحياة الجديدة كانت المنازل إما طينية وإما خشبية يبنيها الناس من دون موافقة الحكومة وكأنهم يتملكون الأرض، يشيدون غرفا بعدد النساء اللاتي يعشن في منزل واحد تحت قيادة الأكبر سنا، ويعمل رجال الأسرة كرجل واحد يضعون ما يكسبونه في يد كبيرهم ليدبر معيشتهم الضنك غالبا، والتي تفتقد رفاهية اليوم. لم تغلق هذه الأبواب ولم يتوقف الفرح حتى انتشرت الخرسانة المسلحة بدل منازل الطين والخشب، وأغلقت الأسر حياتها على أنفسها وأصبحت علاقة رسمية جدا. رفعت السلطات اسم القرية عن الجهراء وأطلقت عليها اسم مدينة الجهراء، وكأنها تحولها من البساطة الممتعة إلى التعقيد الكئيب. اجتاحت الحياة الجديدة الآلة وتم ارتفاع مساحة الخرسانة والحديد على المربعات الخضراء التي كانت تنتشر على مساحات شاسعة من القرية. تم تنظيم البناء العشوائي وهدمت مباني الطين والخشب ودخلت التكنولوجيا لحياتنا لتفرض عليها عزلة، وبدأت الأسر تفترق وتنتشر الفردانية والاهتمام بالذات بدلا من الاهتمام الجمعي الذي عرفه وتعايش به أهل القرية. اختفت ملاعب الشباب مع بداية دخول الألعاب الفردية وتقطعت العلاقات التي كانت تجمعهم. هذه الفردية التي أدت إلى توحش الفرد وانتشار الريبة واختفاء السلوك الانساني. ازدادت الحياة تعقيدا وفقدت المدينة انسانيتها وتحول قلبها الطيب إلى روح موحشة يسكنها هاجس الشك وانعدام الثقة بالآخر. زمن العزلة بعد سنوات تحولت المدينة إلى محافظة وانتشرت مناطق جديدة أضافت عزلة على عزلتها الأولى، واختلط أناس الجهراء بأناس قادمين من أماكن بعيدة لم تربطهم بأهلها علاقة سابقة. أصبح الجار بالكاد يعرف اسم جاره وبالكاد يحييه في الصباح. وانتقل عن الجهراء الكثير من سكانها السابقين لأماكن بعيدة ولم يعد بهم الحنين إليها. لم يكن بامكان جار أن ينام وجاره يتألم لسبب أو آخر، لم يكن الناس بحاجة لمواعظ ودروس في الأخلاق والتواصل كما هم اليوم، ولم تكن لتنتشر جمعيات البر والخير لتسد حاجة المحتاج، كان الناس أدرى بحاجتهم وتحمل عبء المحتاج دون منة من أحد. لقد ماتت القرية الجميلة في تفاصيلها الأسرية حين كان الجار يربي أبناء جيرانه كما يربيهم آباؤهم. ماتت الطيبة في الناس في الوقت الذي غير الناس بيئتهم السكنية وتفاصيل معمارهم النفسي، وفقدت تلك العلاقات الأسرية الممتدة بأحياء كاملة والتي اقتصرت اليوم على أسرة محددة إلا فيما ندر. القرية كانت معلمة النشء ومدرسة أبنائها، وكان ظلامها ليلا ملعب صباهم وملجأ أحلامهم وحين أنارت المدينة أضواءها اختفى كل شيء.

مشاركة :