شجرة الدر تنقذ أبا الحسن الخراساني من الموت (24 - 30)

  • 6/8/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

تواصل شهرزاد حكايات الليالي العربية، وقصص القصور، وتستكمل حكاية أبي الحسن الخراساني بعدما تحامل على نفسه يريد الوصول إلى مقصورة شجرة الدر متخفياً كي لا يراه الخليفة، ولكنه عندما رآه مقبلاً مع الجاريات أيقن بالهلاك، ونطق بالشهادتين استعداداً للقاء الموت. لما كانت الليلة الثالثة والثمانون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد، أن أبا الحسن الخراساني، بعدما توجّه الخليفة إلى مقصورة شجرة الدر، بقي ممدداً في مكانه بالممر الأول وهو يقول لنفسه: الحمد لله على أنني لم أسبقه إلى المقصورة، وإلا لضبطني بها مع شجرة الدر، وكان في ذلك هلاكها أيضاً. وفيما هو يهمّ بالنهوض للرجوع من حيث أتى قبل انصراف الخليفة، إذا بباب المقصورة القريبة منه فتح، وظهرت على بابه جارية بملابس النوم، وما كادت ترى حبة الفول بباب مقصورتها حتى صاحت في دهشة: إن الخليفة لم يمش من هنا، وقد سمعته وهو يؤجل وضع حبات الفول بعد انصرافه من الممر الآخر، فمن الذي وضع هذه الحبة هنا؟ ثم حانت منها التفاتة إلى الموضع الذي تمدّد فيه أبو الحسن، فكادت تصرخ لولا أن الفزع عقد لسانها وحبس صوتها، فانتهز هو هذه الفرصة ونهض مسرعاً ورمي نفسه على قدميها وأخذ يقبلهما وهو يبكي قائلاً: إنني مستجير بالله وبك يا سيدتي، وفي يدك الآن حياتي أو قتلي، وأنا راض بما تختارين. هدايا كثيرة وكانت هذه الجارية من الجواري اللائي يكثرن التردد على دكانه، إعجاباً بكرمه وهداياه الكثيرة. لما سمعت صوته عرفته وهمست قائلة في دهشة: ألست أبا الحسن الخراساني كبير تجار الجواهر؟ لكن ما الذي جاء بك إلى هنا، وكيف حصلت على بدلة الخليفة وبخوره؟ وعرفها هو الآخر من صوتها، فذهب عنه بعض خوفه، وقال لها: استحلفك بالله وبحقي عليك أن تدخليني إلى مقصورتك هذه أولاً، لأني أخشى أن يخرج الخليفة ويأتي إلى هذا الممر فيراني. وعاد يقبل قدميها، ويكرّر التوسل إليها، إلى أن رق له قلبها، فأدخلته مقصورتها قائلة: إنك كنت كريماً معي، فيجب أن أكون كريمة معك، ولو ضحيت في سبيل ذلك بروحي. دخلت بعده وأغلقت باب المقصورة، وقالت له: أصدقني القول ولا تخف شيئاً من أمرك وسبب وجودك هنا، وأنا أعاهدك أن أعمل كل ما في وسعي لإنقاذ حياتك وإبلاغك ما تريد، إذا لم يكن فيه ما يغضب الله. ولم يجد أبو الحسن بدأ من أن يروي لها قصته من أولها إلى آخرها، فلما سمعتها ضحكت وقالت: هذا أمر عجيب، إن شجرة الدر أختي، وأنا أعرف منذ عهد بعيد أنها متعلقة القلب بحب شاب غني كانت تقابله خارج القصر، وحصلت منه على كثير من الجواهر. لكني لم أكن أظن أنك أنت ذلك الشاب. وما دام الأمر كذلك، فلا بد من أن أجمع بينكما الآن. قامت وفتحت خزانة في مقصورتها وأخرجت منها بعض ثيابها وحليها وجواهرها وقالت له: ألبس هذه الملابس بدلاً من ثيابك، وتزين بالجواهر، وسأخذك معي الآن بوصفك جارية لي وأدخلك مقصورة أختي شجرة الدر، رغم وجود الخليفة فيها، فتشرب وتطرب بسماع غنائها، ثم تبقى عندها بعد انصرافه، إلى أن نتدبر في خروجكما ثم عقد قرانك بها كما تريد. وأخذت الجارية في تزيين أبي الحسن بعدما ارتدى ملابسها كما علمته كيف يمشي ويضحك ويتكلم كي لا يشك من يراه ويسمعه في أمره. ثم اصطحبته إلى مقصورة أختها، وأجلسته بجانبها بين الجواري الجالسات هناك لخدمة الخليفة وسماع شجرة الدر. وكانت هذه جالسة والعود في يدها لتعزف عليه وتغني، لكن قلبها مشغول بأمر أبي الحسن وعدم حضوره إلى مقصورتها حسب اتفاقها مع المملوك مقبل، وقد أصفر وجهها وأخذ جسمها يرتعد خشية أن يكون أصيب بسوء. ولم يخف أمرها على أختها، فنهضت من مكانها وتوجهت إليها وهمست في أذنها قائلة لها: لا تفكري في أمر أبي الحسن فهو بخير وسترينه الآن. ثم رجعت إلى مكانها وجلست إلى جانب أبي الحسن وهو في ملابسه النسوية، وقد بدأ كأنه جارية من أجمل الجواري، حتى إن الخليفة نفسه، أعجب بجماله وأخذ يختلس إليه النظرات! غناء الملكة عجبت شجرة الدر من معرفة أختها بأمر أبي الحسن، مع أنها لم تخاطبها في شأنه، ولكنها اطمأنت إلى سلامته، وانبسطت أساريرها، بعدما ذهب عنها الخوف والقلق. ثم عزفت على العود فأطربت بالنغمات، ثم غنت هذه الأبيات: عجبت لسعي الدهر بيني وبينها فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر هجرتك حتى قيل لا يعرف الهوى وزرتك حتى قيل ليس له صبر فبحبها زدني جوي كل ليلة ويا سلوة الأيام موعدك الحشر طرب الخليفة طرباً شديداً، وصادفت هذه الأبيات هوى في نفسه، لأنه كان على خلاف مع زوجته أم ولده المعتز بالله. أما أبو الحسن فإنه لشدة طربه كاد ينسى نفسه وأنه متنكر في زي جارية، وفي حضرة الخليفة بمقصورة إحدى محظياته، لكنه تمالك نفسه كي لا يفتضح أمره. ثم عزفت شجرة الدر بعد ذلك وغنت: أعانقها والنفس بعد مشوقة إليها وهل بعد العناق تدان؟ لم يتمالك الخليفة نفسه من شدة طربه، ونهض فقبل يد شجرة الدر، وقال لها: أنت حرة لوجه الله تعالى. ولك كل ما في مقصورتك من جواهر وتحف وفوقها ألف دينار هدية مني. فقامت شجرة الدر وقبلت يديه شاكرة، ثم اقبلت أختها وبقية الجواري يهنئنها. ولما جاء دور أبي الحسن لتهنئتها لم يتمالك نفسه فأخذ يقبلها وهو يبكي، ولم يزل كذلك إلى أن أمسكته أختها وأرجعته إلى مكانه وهي تهمس له بأن يرجع إلى رشده وإلا ساءت العاقبة. ثم طلب الخليفة من شجرة الدر أن تغني لحنا آخر، فغنت هذين البيتين: أيا ربة الحسن التي أذهبت نسكي على أي حال كنت لا بد لي منك فأما بذل، وهو أليق بالهوى وأما بعز، وهو أليق بالملك جناح خاص اشتد طرب الخليفة، والتفت إلى أخت شجرة الدر وإلى أبي الحسن الجالس بجانبها، وصاح بهما قائلاً: أنتما أيضاً حرتان لوجه الله تعالى وإكراما لشجرة الدر، فأقبلت عليهما شجرة الدر وبقية الجواري مهنئات. ثم عزفت لحنا آخر على العود، وغنت هذه الأبيات: ملك الثلاث الآنسات عناني وحللن من قلبي أعز مكان مالي تطاوعني البرية كلها وأطيعهن وهن في عصياني؟ ما ذاك إلا أن سلطان الهوى وبه غلبن، أعز من سلطاني. لما سمع الخليفة غناءها، طرب طرباً عظيماً، ثم أشار إليها وإلى أختها والجارية التي معها، وهو لا يعرف حقيقة أمرها. وأمرهن بأن يتبعنه إلى جناحه الخاص بالقصر، كما أمر بقية الجواري بالانصراف إلى مقاصيرهن، بعدما أمر لكل واحدة منهن بهدية ثمينة! غرابة الحكاية لما كانت الليلة الرابعة والثمانون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشاب ابن أبي الحسن الخراساني لما وصل إلى هذا الحد في حديثه عن قصة والده مع الخليفة المتوكل ومحظيته شجرة الدر، اشتد عجب الخليفة المعتضد ووزيره ابن حمدون لغرابة هذه الحكاية. ثم قال المعتضد للشاب: ماذا حدث بعد ذلك؟ فأجاب: حدثني أبي يا أمير المؤمنين بأنه لما وصل إلى جناح الخليفة المتوكل في ملابس الجارية، ومعه شجرة الدر وأختها، قال الخليفة لشجرة الدر: أريد أن أزوجك أنت وأختك من يعجبكما من مماليك القصر، على أن أعتق زوجيكما أيضاً وتعيشوا جميعا في كنفي ورعايتي. فقالت له أختها: أما أنا فلا أختار سوى المملوك مقبل. فقال لها الخليفة: أحسنت الاختيار. ثم التفت إلى شجرة الدر وقال لها: من تختارين زوجاً لك؟ فأطرقت قليلاً وهي تفكر، ثم رفعت رأسها وقالت له: هل يعدني أمير المؤمنين بأن يوافق على زواجي بمن أختار؟ فقال لها: نعم أعدك بذلك والله شهيد على ما أقول. لما سمعت منه ذلك، أشارت إلى أبي الحسن وهو بملابس الجارية وقالت: لا أتزوج إلا هذه! لما سمع الخليفة جوابها، تعجب غاية العجب، وظهر في وجهه الغضب، وقال لها: إنما يكون الزواج بين ذكر وأنثى. فمالت على يده وقبلتها، ثم أرسلت دموعها حتى بللت خديها وكاد الخليفة يبكي لبكائها، وقصت عليه بعد ذلك قصتها مع أبي الحسن من أولها إلى آخرها، فاشتد عجبه، وقال لأبي الحسن: لولا أن لشجرة الدر مكانة عظيمة عندي ما غفرت لك فعلتك هذه، ثم أمر باستدعاء المملوك مقبل. فلما مثل بين يديه، قال له: ما حملك على عصيان أمري، وإدخال غريب متنكر في قصري؟ فقال المملوك مقبل: حملني على ذلك أني محب محروم مثله. فقال الخليفة: من التي أحببتها وحرمت منها؟ فأشار إلى الجارية أخت شجرة الدر وقال: هذه هي التي أحبها، وقد كتمت حبي في قلبي تأدباً في حق مولاي أمير المؤمنين، لعلمي أنها من محظياته. فقال الخليفة المتوكل: إنها الآن حرة، فإن رغبت في أن تكون زوجتك، فأنا أوافق على رغبتها. ثم سألها: هل تقبلين أن يكون مقبل زوجاً لك؟ فأطرقت وهي تبتسم مسرورة، لأنها كانت هي أيضاً متيمة بحب مقبل ولا تستطيع إظهار حبها. وعلى هذا دعا الخليفة بعض المماليك وعقد قران أبي الحسن بشجرة الدر، وقران مقبل بأختها، ووهب لهم كل ما كان في مقصورتي الجاريتين، عدا ألف دينار وهدايا أخرى لكل من جاريتيه السابقتين، وبقي يغمرهم بإنعامه إلى أن لقي مصرعه عليه رحمة الله تعالى. مكافأة مجزية ثم قال الشاب ابن أبي الحسن الخراساني للخليفة المعتضد ووزيره ابن حمدون: هذه هي قصة والدي مع جدك، وكل ما رأيته هنا من تحف وآنية وفرش وستائر وغيرها إنما هو بعض ما أخذه أبي وزوجته شجرة الدر هبة منه. لما سمع الخليفة المعتضد ذلك، قال له: والله لا أكون معك أقل كرمًا من جدي مع والدك. ثم أمر وزيره ابن حمدون بإعطاء الشاب صاحب الدار ضيعة عامرة مع إعفائه من خراجها وإجراء راتب له مكافأة على كرمه. الغلام الزاهد لما كانت الليلة الخامسة والثمانون بعد الأربعمئة قالت شهرزاد للملك شهريار: يحكى أيها الملك السعيد، أن الخليفة هارون الرشيد، كان له غلام باهر الجمال، كريم الخلال، أمين على العرض والمال. وقد أحبه منذ صغره، وجعل له مكانة عظيمة في قصره، ولما بلغ هذا الغلام السادسة عشرة من عمره، أخذ يفكر في عاقبة أمره، ثم انتهى به التفكير إلى اعتزال العالم بأسره فسلك طريق الزهاد، وهام على وجهه في الجبال والوهاد، ثم اتخذ لنفسه سكنا بين القبور، وبقي هنالك حينا لا يزار ولا يزور! وعهد الرشيد إلى بعض الوزراء والعلماء والأطباء، في علاج غلامه مما قد يكون به من الداء. ولكنهم جميعاً بلا استثناء، عجزوا عن الاهتداء إلى أي دواء. فلم يسع الرشيد إلا أن ذهب بنفسه إلى المقابر حيث قابل الغلام، وبعد أن تبادلا التحية والسلام، قال له: حسبك يا ولدي ما بلغت من هذا الأمر، وتعال معي إلى مسكنك في القصر. فأعرض الغلام، عن سماع هذا الكلام. وبعد أن أطرق حيناً رفع رأسه، وقال وكأنه يحدث نفسه: تروعني المقابر كل وقت ويفزعني بكاء النائحات وكم تحت التراب ثوى أناس فما انتفوا بغير الصالحات. ثم أخذ في البكاء، وشغل عن الرشيد بالتضرع والدعاء. وفيما هما كذلك إذ بطائر يهبط من السماء ويقف على كتف الغلام، ثم يقرب منقاره من أذنه كأنما يسر إليه ببعض الكلام. ثم حلق الطائر في الفضاء، واختفى راجعاً من حيث جاء. وعلى أثر ذلك التفت الغلام إلى الرشيد، وقال له: لقد قرب البعيد، والسعيد السعيد، من لقي ربه بعمل حميد. فهو سبحانه ذو العرش المجيد، فعال لما يريد. وويل لكل جبار عنيد، فهو سبحانه ذو العرش المجيد، فاعل لما يريد. وويل لكل جبار عنيد، يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد. ثم تدثر بالجبة الصوفية الخشنة التي يرتديها، وأخذ جسمه يرتعد، بينما عيناه تكسبان العبرات، ولسانه يتمتم بدعوات خافتات، فقطع الرشيد أمله في رجوعه معه، ورجع وحده إلى قصره وهو يكفكف أدمعه، ومهجته متقطعة. وفي اليوم التالي، علم الرشيد أن الغلام غادر مكانه في تلك المقبرة، وسافر ماشياً إلى البصرة، فأرسل يستقصي عن حاله فيها، فعلم أنه ترك حياة العزلة والوحدة، واحترف صناعة البناء هناك، وِانه يشترط أن يكون أجره في اليوم، درهماً ودانقاً لا غير، ومن عادته أن يتصدق بالدرهم ويقنع بإنفاق الدانق في لقيمات يقيم بها أوده ويتقوى بها على العمل والعبادة. ثم انقطعت بعد ذلك أخبار الغلام، ولم يعد أحد يدري أين استقر به المقام. ومضت على ذلك أيام، والرشيد مشغول البال بأمر ذلك الغلام، وفيما هو جالس في الديوان، ومن حوله الوزراء والعلماء والأعوان، جاءه أحد الحجاب، وقال: إن رجلا من البصرة بالباب، وهو يستأذن في مقابلة أمير المؤمنين ليسلمه بيده رسالة من أحد البصريين. فأذن له الرشيد في الدخول عليه. ولما رآه ماثلاً بين يديه، قال له: أين الرسالة التي معك، ومن الذي ارسلها؟ فأخرج الرجل ياقوتة ثمينة تساوي آلافا من الدنانير وسلمها للرشيد قائلاً: هذه أمانة حملني إياها إليك شاب صالح كان يعمل بناء عندي في البصرة، وقد توفي إلى رحمة الله! لما سمع الرشيد كلام البصري، وفحص تلك الياقوتة، بكي بكاء شديداً، ثم قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون. والتفت إلى الرجل البصري وقال له: أخبرني بكل ما تعلمه عن هذا الشاب المسكين. فقال البصري: والله يا أمير المؤمنين، ما رأيت في حياتي مثله في صلاحه وتقواه. وقد كان في داري جدار تداعى للسقوط، فخرجت أبحث عن بناء يصلحه، وإذا بذلك الشاب يستوقفني ويقول لي: إذا قبلت شرطي، فأنا أصلح لك جدار بيتك. فعجبت من علمه بذلك، وسألته: ما شرطك؟ فقال: شرطي أن يكون أجري في اليوم درهماً ودانقاً، وأن أجمع بين العمل وعبادة الله. فقبلت شرطه راضياً، وأخذته إلى داري، حيث أمضى أياماً عدة، أتم فيها بناء الجدار على ما يرام. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح. وإلى اللقاء في حلقة الغد

مشاركة :