في وقت قياسي، أتاحت البساطة الخادعة في رواية “الخيميائي” لمؤلفها باولو كويلو انتشارا عالميا، وصنعت منه ظاهرة أدبية تكاد تكون غير مسبوقة؛ بحكم أنها العمل الأول لروائي يكتب بلغة غير الإنكليزية. والأكثر جذبا للانتباه أن مقولات أبطال الرواية صارت أكبر من دائرة قرائها، وخرجت عن سيطرة المؤلف، وتداولها هواة الثقافة السماعية من غير القراء، وبعض الأبطال في أفلام مصرية، باعتبارها حكما ومأثورات مجهولة المؤلف، ومنها “الأسطورة الذاتية”، و”عندما تريد شيئا بإخلاص فإن العالم كله يتآمر لتحقيق رغبتك”، والجملة الأخيرة في سياق السرد ساحرة، وتكفي لشحن القارئ بقوى تحفزه على التغيير، وتدفعه إلى اتخاذ قرارات مؤجلة غير عابئ بشيء ولا أحد. وإذا انتهيت من الرواية وطويتها ولم تتغير، فأنت قاسي القلب. كويلو البرازيلي المولود عام 1947 اكتسب شهرته العربية العريضة بعد أن تحمس الروائي المصري بهاء طاهر لترجمة “الخيميائي” إلى العربية، وصدرت في يوليو 1996 في سلسلة روايات الهلال العريقة واسعة الانتشار بعنوان “ساحر الصحراء”، وهي الطبعة التي أعتمد عليها في هذا المقال. وصنعت مكانة المترجم جسرا عبر بالمؤلف إلى عواصم عربية أكثر احترافا في مهنة النشر، واحتكرت حقوق ترجمة رواياته التالية التي لم تسلم من القرصنة الإلكترونية والتزوير الورقي، كما لم يسلم اسم المؤلف وعنوان روايته الأولى من الاختلاف في الترجمة، فللرواية أربعة عناوين: ساحر الصحراء، السيميائي ساحر الصحراء، السيميائي، الخيميائي. كما يكتب اسم المؤلف Paulo Coelho بأربعة أشكال، إذ كتبه لبهاء طاهر في الطبعة الأولى “كويلهو”، وسرعان ما تبين أن حرف H لا ينطق، فصدرت الطبعة الثانية باسم كويليو الذي ترجمه آخرون إلى كويللو، ثم استقر تقريبا على “كويلو”. كان الكاتب المصري بهاء طاهر مقيما في جنيف، ولاحظ اهتماما كبيرا من الصحافة السويسرية بالروائي والرواية التي ترجمت آنذاك إلى خمس وأربعين لغة، وربما بلغ عدد اللغات التي ترجمت إليها أعمال كويلو ثمانين لغة. وجاء في أحد المقالات أن رواية كويلو لا تقارن إلا بكتاب “النبي” لجبران خليل جبران، أو برواية “الأمير الصغير” لسانت أكزوبيري. وبدافع من إغراء المقارنة باسميْ جبران وأكزوبيري، قرأ بهاء طاهر الرواية وترجمها. للسياق النفسي والتاريخي دور حاسم في شهرة عمل أدبي متوسط القيمة من الناحية الجمالية، وقد يؤدي السياق إلى التعمية على عمل أدبي كبير حتى يأتي توقيت ملائم لإعادة الروح إليه للسياق النفسي والتاريخي دور حاسم في شهرة عمل أدبي متوسط القيمة من الناحية الجمالية، وقد يؤدي السياق إلى التعمية على عمل أدبي كبير حتى يأتي توقيت ملائم لإعادة الروح إليه كنز مدفون قرب الأهرام للسياق النفسي والتاريخي دور حاسم في شهرة عمل أدبي ربما يكون متوسط القيمة من الناحية الجمالية، وقد يؤدي السياق إلى التعمية على عمل أدبي كبير حتى يأتي توقيت ملائم لاستعادته وإعادة الروح إليه. ورغم الاختلاف على المستوى الفني لرواية “الخيميائي” فلا بد أن أعترف بأنها ممتعة، وتخاطب الكبار والشبان، ولا تثير قلق القارئ المتعطش إلى يقين وقد أرهقه تعقّد الحياة من حوله. وغالبا ما يسعى الإنسان المطـارد بالشكوك إلى أن يلوذ بمنطقة ظلال يلتمس فيها شيئا من الراحة، ويؤجل التفكير في أسئلة مؤرّقة لا يعرف لها إجابة، وربما يجد الإجابة في رحلة يقطعها بطل الرواية “سانتياجو” بحثا عن كنز يحلم به، في مغامرة طويلة وشاقة تمتد من إسبانيا إلى مصر، ولكنها لا تخلو من متعة اكتشاف الكنز الحقيقي الأثمن من كنز مدفون بالقرب من الأهرام. بطل الرواية راع إسباني شاب اسمه “سانتياجو”، يميل إلى الصمت، ويحب قراءة الكتب، ويجد في مهنة رعي الأغنام ما يعينه على التأمل، ثم يعيد حكي القصص لابنة تاجر يجزّ فراء غنمه، وتعجب الفتاة بالراعي الفقير الذي تستهويه القراءة. وكان الشاب حتى سن السادسة عشرة يتردد على المدرسة الدينية، لرغبة أبويه أن يكون قسّا، أما هو فيحلم “منذ صباه الباكر بأن يعرف العالم، كان ذلك في نظره أهم بكثير من معرفة الرب أو خطايا البشر”، وصارح أباه بأنه لا يريد أن يصبح كاهنا، وتساءل يوما وهو يرقب شروق الشمس “كيف يمكن للإنسان أن يذهب إلى مدرسة دينية لكي يبحث عن الله؟”. ولا تسير حياة الشاب وفقا لخط تقليدي ينتهي بالزواج، إذ عصف بخياله حلم، وهو نائم بجوار شجرة جميز في ساحة كنيسة مهجورة، واقتاده طفل إلى الأهرام جنوبي القاهرة، وهناك سيجد كنزا مخبوءا، وفي اللحظة التي أوشك فيها الطفل أن يدله على موضع الكنز انتبه الشاب من نومه، وطارده الحلم مرة ثانية صحا فيها أيضا عند هذا المشهد. ويلجأ إلى غجرية تفسر الحلم فتشترط الحصول على العشر من الكنز، قبل أن تنبئه بالرؤيا، ثم تنصحه بالسفر للعثور على الكنز المدفون عند أهرام لم تسمع عنها من قبل، وتبشّره بالعثور على الكنز الذي سيجعله ثريا، فيغضب لأنه انتزعت منه وعدا باقتسام الكنز من دون أن تريحه، إذ أسمعته ما أخبرها به، وفسرت الماء بالماء، فتقول إن حلمه يصعب تفسيره، “فالأشياء السهلة هي أغرب الأشياء، والحكماء وحدهم هم الذين يسعهم إدراكها”، فينصرف محبطا ويقرر ألا يصدق الأحلام. لا يستطيع الشاب العودة إلى سيرته الأولى، ويفقد الكثير من الطمأنينة، ويشرع في قراءة كتاب، فيشردُ فكره، ويدهشه أن حلما بكنز في بلد بعيد يصرفه عما بين يديه، عن أغنامه وعن الفتاة ابن التاجر في المدينة. ويأتيه عجوز يقول إنه ملك مدينة بعيدة اسمها “سالم”، ويحدثه عن كنز ينتظره. ويستهين الشاب بالشيخ الذي يكتب سطورا على الرمال تروي جانبا من حياته، كتب اسمي والديه وألعاب طفولته، وأمورا لم يبح بها الشاب لأحد، منها لذته الجنسية الذاتية الأولى. ويواصل الملك كلامه عن معنى تحقيق الأسطورة الشخصية، ففي مستهل الشباب يكون كل شيء واضحا وممكنا، “ولا يخشى الإنسان من أن يحلم ومن أن يسعى وراء كل ما يشتهي أن يفعله في الحياة، ولكن مع مرور الوقت تبدأ قوة غامضة في محاولة إثبات استحالة تحقيق أسطورته الذاتية”. ولا يبالي الشاب كثيرا بالكلام، ولكنه ينشغل بمعرفة ماذا تعني تلك القوى الغامضة؛ لكي يبهر بها الفتاة، ويجيبه الشيخ بأنها “قوى تبدو سيئة ولكنها في الواقع تعلمك كيف تحقق أسطورتك الذاتية، فهي التي تشحذ روحك وإرادتك، لأن هناك حقيقة كبيرة في هذا العالم. فأيا كنت ومهما كان ما تفعله، فإنك عندما تريد شيئا بإخلاص، تولد هذه الرغبة في روح العالم… عندما ترغب في شيء يتآمر الكون كله ليسمح لك بتحقيق رغبتك”. ينصرف الشيخ، ولا يستطيع الشاب مواصلة القراءة، “لأنه أدرك أن الشيخ قد قال الحقيقة”، ويفكر في الرحيل، ويشعر بهبوب رياح المغرب، ويدرك أن بإمكانه أن يكون حرا كالرياح. ويعبر مضيق جبل طارق إلى المغرب، وهناك يتعرض لكثير من المحن، ويفقد ماله، ويقترب من اليأس، ثم يتمكن من تدبير بعض المال، ويقرر أن يرجع إلى الأندلس ليشتري قطيعا جديدا، ويستأنف حياة قطعها حلم وعرافة غجرية وملك عجوز غريب، إلا أنه يجد نفسه محكوما بالمسير مع قافلة تتجه إلى واحة الفيوم في مصر، فيعي دلالة كلمة “مكتوب” التي سمعها من تاجر مغربي، ولم يفهم الشاب معنى الكلمة، فأجابه صديقه التاجر “لا بد وأن تكون قد ولدت عربيا لكي تفهمها. ترجمتها لا تعني شيئا، تعني أنه شيء مدون”، قدر لا فكاك منه لأنه مكتوب، ولا أحد يستطيع الهرب من المكتوب. وقبل أن يرحل ينصحه التاجر بألا يتنكر لأحلامه، “وانتبه إلى العلامات”، ويذكره بما قاله له الشيخ الملك عن تآمر العالم لتحقيق رغبته إذا أرادها بإخلاص. واحة الفيوم التي وجدها الشاب ساحة لحروب قبلية ليست مكانا واقعيا تماما، ولا يُعنى كويلو بتحديد المكان، ولا يحدد زمان الرحلة التي تخلو من إشارة إلى أدوات انتقال أو اتصالات عصرية، فتبدو الرواية/ الرحلة في نهايات القرن التاسع عشر أو بدايات القرن العشرين عملا رمزيا مهموما بانخراط الإنسان في “روح العالم”، وهو ما سيسمعه الشاب في الواحة أيضا من رجل إنكليزي أخبره بحكايته، فقال للشاب “ذلك هو المبدأ الذي يشمل كل شيء حي، والذي تسميه السيمياء، روح العالم، فعندما تريد شيئا من كل قلبك تقترب من روح العالم، وتلك قوة إيجابية على الدوام”، ولم ينس أن ينبهه إلى أن البشر لا يتميزون بذلك؛ فلكل شيء روح، ولو كان جمادا أو فكرة. الأسطورة الذاتية باولو كويلو أجاد معالجة التصوف بطمأنة القارئ، وتفادي أسئلة تثير قلقه عن صراع الثقافات وحروب الأديان والمذاهب والأعراق واللغات باولو كويلو أجاد معالجة التصوف بطمأنة القارئ، وتفادي أسئلة تثير قلقه عن صراع الثقافات وحروب الأديان والمذاهب والأعراق واللغات ولكن الشاب خلال الحصار في الواحة بسبب حروب العشائر، استعد للتخلي عن حلمه، حين عثر على ما ظنه أثمن من الكنز وقابل فاطمة الفتاة الصحراوية الجميلة وبادلته الحب، وقص عليها حكايته، ورغبته في الاستغناء بالحب عن الوعد بالكنز، فترفض فاطمة، وتقدم له حججا من كلامه عن ضرورة احتمال القسوة والمشاق لكي يحقق الحلم. ويدهشه أن يكرر السيميائي، وهو شيخ مهيب في الواحة، كلمات الملك العجوز “عندما نريد شيئا، يتآمر الكون كله لكي يسمح بتحقيق حلمنا”، ويصارحه الشاب بأنه يود البقاء، “لقد التقيت بفاطمة وهي عندي أغلى من الكنز”، فيحثه السيميائي على إكمال الرحلة إلى الأهرام؛ فالحب لا يمنع رجلا من السعي وراء أسطورته الذاتية، “وإن حدث ذلك فمعناه أنه لم يكن حبا حقيقيا، أي الحب الذي يتكلم لغة العالم”. وقبل الرحيل سأله: لماذا يسمونك السيميائي؟ قال لأنه كذلك، فسأله الشاب عن مشكلة السيميائيين الآخرين وعما إذا كانوا قد فشلوا في البحث عن الذهب، فأجاب السيميائي “إنهم اكتفوا بالبحث عن الذهب، بحثوا عن كنز أسطورتهم الذاتية دون أن يرغبوا في أن يعيشوا الأسطورة ذاتها”، وينصحه بالمضي والإصغاء إلى قلبه، فهو يعرف كل شيء، ولن ينجح في إسكاته، “حيث يكون قلبك يكون كنزك”، وأفضى الشاب إلى السيميائي بأنه يخشى على قلبه أن يتعذب، فنصحه بمخاطبة قلبه “قل له إن الخوف من العذاب أسوأ من العذاب نفسه، وإنه ما من قلب تعذب وهو يسعى وراء أحلامه، لأن كل لحظة من البحث هي اقتراب من الله ومن الأبدية”. وطمأنه بأن قلبه سوف يدله على الكنز. خلا الشاب إلى نفسه، وحمد الله الذي دفع في طريقه ملكا وتاجرا وإنكليزيا وسيميائيا. وحمده لأنه قابل امرأة جعلته يدرك أن الحب لا يصرف الإنسان عن أسطورته، “ومن فوق الأهرام كانت القرون تراقب في صمت”، وظل الشاب يحفر ويحفر، حتى اقترب منه رجال يريدون مالا وظنوه قد أخفى كنزا، وأمروه بالحفر وضربوه حتى أشرقت الشمس، وشعر باقتراب الموت، ثم أخبرهم أنه يبحث عن كنز حلم به هنا مرتين. تبدو الرواية/ الرحلة في نهايات القرن التاسع عشر أو بدايات القرن العشرين عملا مهموما بانخراط الإنسان في "روح العالم" وقال له أحدهم إنه منذ قرابة عامين، في هذا الموضع، حلم بأنه يجب أن يذهب إلى إسبانيا، وأن يبحث عن كنيسة مهدمة يقصدها الرعاة للمبيت مع الأغنام، وفي موضع هيكلها تنمو شجرة جميز، “وهناك سأجد كنزا مطمورا، لكني لست من الغباء بحيث أعبر الصحراء لأني رأيت الحلم نفسه مرتين”، وانصرف الرجل، ونهض الشاب ونظر إلى الأهرام، “لقد وجد كنزه”، وكانت الرحلة نفسها هي الكنز. للرواية أصل لا يزيد على صفحة في الليلة 351 من “ألف ليلة وليلة”، عن ثري من بغداد نفد ماله، وذات ليلة رأى وهو نائم مقهور من يقول له “رزقك بمصر فاتبعه”، فسافر وأدركه الليل فنام في مسجد، بجوار بيت تعرض للسرقة، وانتبه أهل البيت إلى اللصوص الذين تسللوا من المسجد إلى البيت، وصرخوا فهرب اللصوص، ودخل الوالي المسجد، وقبض على البغدادي وضربه ضربا موجعا، وأشرف على الموت. وبعد ثلاثة أيام في السجن جيء به إلى الوالي، وقال إنه استجاب لحلم يقول “رزقك بمصر فتوجه إليه فلما جئت إلى مصر وجدت الرزق الذي أخبرني به تلك المقارع التي نلتها منك”، فضحك الوالي واتهمه بخفة العقل، وأخبره بأنه رأى ثلاث مرات في منامه من يصف له بيتا في بغداد، ويحدد له موضع مال “عظيم فتوجه إليه وخذه فلم أتوجه وأنت من قلة عقلك سافرت من بلدة إلى بلدة من أجل رؤيا رأيتها وهي أضغاث أحلام ثم أعطاه دراهم وقال له استعن بها على عودك إلى بلدك”. استدعاء التصوف كويلو أجاد معالجة التصوف بطمأنة القارئ كويلو أجاد معالجة التصوف بطمأنة القارئ قلت إن للسياق الحضاري والقلق الوجودي دورا في تحديد طبيعة الاستجابة لعمل أدبي، وكان الظرف ضنينا على الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس الذي عالج هذه الحكاية في قصته “حكاية الحالمين”، وجعل بطلها مصريا اسمه محمد المغربي، وقد دفعه حلمه بكنز في أصفهان إلى مغادرة القاهرة، وواجه أخطار الصحارى من الضواري واللصوص، ونام بمسجد اقتحمه لصوص، وضربوه، وفي التحقيق معه أخبره الضابط أنه حلم بكنز في بيت بالقاهرة، ولم يصدق تلك الأكذوبة، ويتهم المغربي بالحماقة، ويأمره بالمغادرة. وكان كويلو محظوظا بمعالجته لحكاية ألف ليلة، في لحظة يسودها عدم اليقين، والخوف على النفس وعلى مستقبل الوجود البشري. وفي ظل عجز عن المواجهة والشعور باقتراب النهايات، يكون الملاذ بالتصوف، وتنتعش سوق الأعمال الأدبية والبحثية المتعلقة بالتصوف وتستلهم سير المتصوفة. وأجاد كويلو معالجة التصوف بطمأنة القارئ، وتفادي أسئلة تثير قلقه عن صراع الثقافات وحروب الأديان والمذاهب والأعراق واللغات، وقدم وجبة قصصية تمد القارئ بالسلام النفسي والتصالح مع الآخر والتناغم الكوني. لم يشعر أحد بكويلو في زيارته لمصر عام 1987، لكي يقترب من روح روايته. وفي العام 2005 استقبل كنجم، ونظم له اتحاد كتاب مصر ندوة حاشدة بحضور بهاء طاهر ومحمد سلماوي رئيس الاتحاد. وكان بصحبة كويلو مدير أعماله، ولعله مسؤول حقوق الملكية الفكرية عن ترجماته إلى العربية، وسأل عن حقوق ترجمة “ساحر الصحراء”، ولم يجد إجابة أكثر من صدورها في سلسلة غير هادفة للربح، في بلد فقير، والأهم أنك يا كويلو ترى صدى الرواية في هذه القاعة.
مشاركة :