قانون التحرش وحده لا يكفي

  • 6/9/2018
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

أخيراً وافق مجلس الشورى السعودي على إقرار مسودة نظام تحمي الضحايا (ذكوراً وإناثاً) من التحرش الجنسي. تأخر المجلس كثيراً في هذا الموضوع، إذ مضى على مناقشة الفكرة ولا أقول هذه المسودة تحديداً، أكثر من خمس سنوات. السؤال المشروع هنا هو كيف ولماذا يتردد المجلس في مناقشة مثل هذه البديهيات؟ الحقيقة أن الجواب محزن نوعاً ما، وجهة نظر الأعضاء المحافظين داخل المجلس وهم الطرف الذي كان الأكثر تأثيراً هي أن وجود نظام كهذا يعني تلقائياً تشريع للاختلاط في سوق العمل، وكون الاختلاط أصلاً «محرماً» كما يصورونه للعامة من الناس فلا داع للقانون. هؤلاء الأخوة والأخوات في الشورى وفي سبيل الوقوف ضد الاختلاط في العمل فقط يضحون بوعي أو من دون وعي بمصالح وكرامة الملايين ممن قد يتعرضون للتحرشات في الأماكن العامة التي تغص بتواجد الذكور والإناث كالأسواق والمطارات والطواف في المسجد الحرام وغيرها، لا تجد أي مبرر آخر لمثل هذا التعطيل التشريعي، وعندما ندخل في مناقشات مع البعض منهم يقول لك إن «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» قريبة ولا يحتاج الأمر إلا اتصال هاتفي. الله أعلم ماذا ستفعل هذه الهيئة عند تلقيها البلاغ إذا لا يوجد لديها نظام محدد ولا عقوبات. موضوع التحرش يعتبر موضوعاً أخلاقياً حساساً وهو بطبيعته معقد وصعب ومعالجته لا بد أن تأخذ موقفاً صارماً في تطبيق قاعدة «المتهم بريء حتى تثبت إدانته». أقول ذلك محذراً من استغلال البعض لهذا القانون لتحقيق مكتسبات شخصية أو مالية كنوع من الابتزاز. لعلكم تتابعون ما يحدث في الولايات المتحدة هذه الأيام وتحديداً بعد فوز «محطمي الصمت» بغلاف مجلة تايم كشخصية العام ٢٠١٧ عبر الوسم الشهير MeToo#، عشرات الشكاوى تظهر كل يوم موجهة ضد مسؤولين حكوميين ورؤساء شركات كبرى من نساء تعرضن في السابق للتحرش وآثرن الصمت. الذي يضع هذه الأخبار عناوين مهمة عندهم أن مثل هذه الدعاوى تكون غالباً سبب في استقالة المتهم، إضافة لما قد يتعرض له من عقوبات ودفع تعويضات. في السعودية خرج النظام متزامناً مع قرب موعد قيادة المرأة للسيارة وهذا لم يأت مصادفة، ولعلنا نتذكر الأمر الملكي بهذا الخصوص وخروج أمر ملكي آخر في اليوم نفسه ينص على ضرورة الانتهاء من قانون التحرش. رأيي ومن خلال المتابعة للأنظمة «القوانين» أننا سننجح في ضبط المتحرشين في حالة واحدة فقط، تلك هي الأخذ بآليات جديدة لتطبيق القانون وما يتبع ذلك من إجراءات، إذ إن عقوبة المتحرش لا يجب أن تقتصر على تطبيقها فقط، بل على وضع الحادثة في السجل المدني كسابقة ضمن السيرة والسلوك، بل وأتمنى بهذه المناسبة تعميم ذلك ليشمل كل المخالفات التي يرتكبها الفرد وليس التحرش فقط. عندما يدرك هذا الفرد أن هذا الانحراف والتعدي على الآخر سيبقى في «صحيفته» وسيطلع على ذلك جهات عامة أو خاصة عدة ترغب في توظيفه، وأن مثل هذه الأحداث ستضيق عليه الفوز بفرصة عمل، عندها فقط سيرتفع مستوى الوعي لديه، أما إن بقيت هذه الحالات سرية ولا يوجد لها أي ذكر في سيرة المدان بها فلن نخرج بالوعي المطلوب، وبالتالي لن نجد هذه القوانين رادعة بالشكل المأمول. أعرف أن موضوع التشهير مثير للجدل، وكما يقول البعض يحتاج إلى «حكم قضائي»، غير أن الظروف تحتّم علينا مراجعة ذلك. أثْمن وأغْلى ما لدى «الرجل الشرقي» هي سمعته، وعندما يدرك أن هذه السمعة ستتلوث بسبب سلوكه فإنه حتماً سيعيد التفكير مئات المرات قبل أن يقدم على أي تصرف يكون سبباً في تشويه هذه السمعة. قد يتساءل البعض عن علاقة الوعي بالعقوبات والجواب واضح وسهل، لولا القانون والعقوبات لما لاحظنا انضباط الناس في المجتمعات المتقدمة. الوعي لدى تلك الشعوب لا يوجد في جيناتهم عند الولادة بل نتيجة حتمية لتطبيق النظام. يُذكر أيضاً أهمية إعداد وتدريب الجهات المعنية بالرقابة وصقل مهاراتهم، لأن ذلك يعتبر ركناً مهماً جداً في إحقاق العدل وتجنب الأخطاء ورمي التهم. أستذكر بعض الحالات التي قد تكشف لنا هذا «الوعي» عندما يغيب النظام وسأختار واحدة منها. قد يتذكر بعضكم ما حدث في مدينة نيويورك عندما انقطعت عنها الكهرباء يومي ١٣ و١٤ تموز (يوليو) ١٩٧٧، إذ تم نهب مئات المتاجر بعد تحطيمها، وانتشرت الجريمة والسرقة والفوضى في معظم أحياء المدينة. سبب ذلك بالطبع غياب الرقابة وتعطل وسائل الاتصال، وبالتالي عدم الخوف من العقوبات. الذي مارس هذه الأعمال لم يخرجوا من تحت الأرض، بل هم أنفسهم من كانوا يقفون بكل تحضر في طوابير الانتظار ومن يلتزمون بدقة في أنظمة السير واتباع التعليمات قبل وقوع هذا الظلام الدامس وسيمارسونه مع عودة الكهرباء والشرطة. هذا يقودنا في الواقع إلى حقيقة مهمة، وهي أن وجود النظام الذي يفتقد للآليات الصارمة في تطبيقه ليس فقط كعدمه، بل أن أضراره أكبر من منافعه. المعتدي الذي يبتلي الآخرين بأذاه عن جهل وغياب للنظام أهون وأقل خطورة من الآخر الذي ارتكب جريمة الاعتداء إضافة إلى ممارسته عصيان الأنظمة والتمرد عليها عن علم وسابق إصرار. الأول جاهل ومتهور وقد يتوب ويندم عندما يطلع على الحقيقة، بينما الآخر متمرد على التعليمات وجريء وقد تقوده هذه السلوكيات إلى ارتكاب جرائم أخرى. هذا ما نشاهده من سائقي العربات في شوارعنا وطرقاتنا مع بالغ الأسف، لأنهم تشبّعوا بالمخالفات المرورية وقلة الذوق من دون أن يوقفهم أحد عند حد، فتمردوا على كل شيء من دون أي اعتبار للذوق العام. لعل تطبيق قانون التحرش والمعاكسات بالآليات التي أشرت لها يفتح لنا الآفاق لمراجعة آليات الضبط والعقوبات في شكل عام وليس التحرش فقط، حتى نتمكن من رفع وعي المواطن والمقيم، أما الاكتفاء بالمناشدات والتوسل عبر ما يسمى بالإرشادات التوعوية فقد جربناها وعايشناها منذ أربعة عقود، سواء حول النظافة العامة أم قيادة السيارة أم الغش أم التزوير ولم تغير في سلوكياتنا شيء.

مشاركة :