في آخر نسخة لملتقى الإعلام العربي في دبي، كان موضوع انتهاء زمن الصحافة الورقية حاضراً، بل أصبحت تلك الملتقيات أشبه بمراسم تأبين سنوي لحالة الصحافة عموماً، وتزداد وتيرة النعي كلما انطفأت صحيفة ما وأعلنت انسحابها من بين يدي القارئ العربي المأخوذ بالوسائط الجديدة. كان مشهد ممثلي الشبكات الاجتماعية كفيسبوك وتويتر فوق مسرح الملتقى وجلسات النقاش، يحاضرون عن الأدوات والمهارات الصحافية التي تتيحها منصاتهم للجمهور، صورة بانورامية تختصر حقيقة تسليم مقاليد المسرح الإعلامي لهذه المنابر التشاركية الجديدة. فيما الحرس القديم من نجوم الزمن الصحافي الفائت ينازعون للبقاء ويحتفظون ببصيص حضور شرفي تضيق دائرته كل مرة، ويشهرون أقلامهم الشاحبة، مشيرين بسؤال العنصر المفقود لثقب سحابة الصيف كما يظنون، المصداقية، التي تتلاشى على منصات الإعلام الجديد، ويغيب معها الضبط المؤسسي مما يعطي الفرصة لتسرب الأكاذيب وعبث التوظيف والارتزاق. لكن الجمهور، وهو العنصر الوازن في المعادلة، لا يأبه كثيراً لهذا السؤال، ويواصل هجرته الدائبة إلى المنصات التي أفسحت له حق المشاركة والتأثير، وبذلك يستمر نزيف الصحافة٬ وتضمر عضلات الدفاع المستميت واليائس عن بقائها. كان الملتقى كل عام يضيق بحرس الصحافة القديم، في المقابل تتناسل وجوه “السوشل ميديا” وتتكاثر، تؤدي مهمتها المختزلة في تغطية الملتقى، ونقل مفعم لأحداثه إلى جماهيرها عبر الفضاء المفتوح، البعض من المستهلكين أو الأتباع يتحلقون حول نجم ما، تزداد تكلفته حسب أرقام متابعاته في نفس الوقت، والمكان ينضج، صحافيون ينتمون إلى مؤسسات مهتزة موادهم لتملأ ورق الصباح التالي أو جدران المواقع الإلكترونية البديلة، كان المشهد قريباً من سباق الأرنب والسلحفاة. مؤخراً٬ أعلنت صحيفة الحياة التخلي عن طبعتها الورقية في عدد من أهم العواصم العربية، التي يصحّ اعتبارها مؤشراً على درجة انتشار ومقروئية الصحافة، ولا سيما في حق واحدة من أهم وأشهر الصحف التي بقيت حاضرة ومؤثرة في الذهن والواقع العربيين. احتفظت “الحياة” بالنسخة نفسها على صيغة إلكترونية، والواقع أن هذا قد يشير إلى الفهم غير الكامل لطبيعة الفضاء الإلكتروني، إذ أن إبقاء الصحيفة بنفس طابعها وتصميمها على الوسيط الإلكتروني يشبه وضع الصحيفة على الاستاندر الشهير الذي كان يحمل الصحف بانتظار أن يلتقطها زبون ما، كما أنه مجرد نقل الصحيفة نفسها بكل طابعها التقليدي دون توظيف كامل أو استثمار في إمكاناتها التقنية ومتاحاتها٬ مؤشر آخر على القصور في المواكبة والفهم. يتعرض المحتوى إلى امتحان صعب، وهو ارتهانه لإلحاح الجمهور بما قد ينزل بطرحه إلى المستوى الشعبي الصحافة عمل بشري مستمر مع اختلاف الوسائل والأوعية، الكلام عن نهاية الصحافة الورقية لا يعني موت الصحافة كحاجة بشرية قائمة ومستمرة، وهي الفعل الدائب لاستقاء المعلومات والبحث في الأخبار. وهذا يجدد الحديث عن تغيير الوسيلة وليس نهاية المهمة أو انتفاءها، وهو ما لا يمكن تصوره ما لم تطو الأرض ويرتفع منها الإنسان. وسائل الإعلام الجديد لم تنف الصحافة كعملية وحاجة ضرورية، بل زادت من فاعليتها وتأثيرها، ووسعت قاعدة العاملين فيها، بإتاحة أدوار جديدة تبدأ بالمواطن الصحافي، ولا تنتهي بكيانات تكبر٬ تقوم بعمل صحافي مكتمل العناصر والأركان، حققت انتشاراً واسعاً وتأثيراً كبيراً بفضل إجادتها وإحاطتها بلغة الجمهور الجديد وتبني أدوات الزمن الصحافي الحديث. كما أن المحتوى لم ينته دوره، بل توسع وازداد تأثيره في تطوير فعالية أي وسيلة إعلامية، المحتوى الذي يلبي حاجات الجيل الجديد، يجيب عن أسئلته العصرية، ولا يلوك ذات المواضيع المكرورة منذ أجيال، وكأن الزمن توقف هناك، أو ذبل المجتمع وتجمد عند لحظة معينة بقيت الصحافة متمهلة عنده من دون حراك. ولأن المحتوى صنو الحرية، ومتطلب لسقف سلس ومرن، فإن فرصة صناعة محتوى حقيقي في صحافتنا العربية تضيق أو تتحسن بصعوبة، ونظرة واحدة على خارطة مؤشر حرية الصحافة تكفي لرؤية ذلك البساط الأسود الذي يخيّم على معظم مناطق الشرق الأوسط بوصفها بلداناً معدومة أو منخفضة الحرية، الأمر الذي يعني محتوى هشاً ومخنوقاً، تتحول عنه الجماهير إلى غيره من البدائل التي توفرها التقنيات الجديدة. من جهة٬ يتعرض المحتوى إلى امتحان صعب، وهو ارتهانه لإلحاح الجمهور بما قد ينزل بطرحه إلى المستوى الشعبي٬ وهو ما ينخر محتويات شبكات التواصل الاجتماعي ومنصات الإعلام الجديد، وبذلك تفقد الصحافة رصانتها ودورها المهني. وأمام هذه الثنائية المربكة، تتزاحم الأسئلة القلقة عن مستقبل الصحافة ومصيرها، وعن واقع ما تعاني، أكانت مشكلتها في عزوف القارئ أم المعلن٬ في نهاية زمنها أم قلة مواردها، ماذا لو كانت الصحف تملك سيولة بأي شكل من الأشكال٬ هل ينهي هذا أزمتها ويعيد إليها جمهورها وشعبيتها؟ هل تستطيع منتجاتها أن تجد لها مستهلكين، أم أن جزءاً من العزوف جاء بسبب الموقف من دور الصحافة في التاريخ العربي٬ وقد تقلبت لعقود في أحضان الأيديولوجيات والسلطات٬ واستسلمت لرياح الأهواء السياسية المتعددة، والتي انتهت في كل الأحوال بخيبة أمل كبيرة طالت كل شيء٬ ونتائج راهنة رثّة. الانتقال الجزئي للصحف لا ينعش الورق ولا ينهي المعضلة، الانتقال الإلكتروني الذي يجتذب الجيل الجديد من الجمهور، وبالتالي المعلن الذي يغذي موارد الصحافة وينمي مدخراتها، يحتاج إلى شيء من مشقة التغيير الواعي بما يحدث في العالم أمام ديناصورية التفكير وتقليدية الوسيلة. كما أن النحيب الممل عن نهاية الورق، يتبدد أمام بقاء الكثير من الوسائل القديمة التي لا تزال حاضرة ونابضة٬ وبقي الفرق في تقليص حضورها، إذ لم ينته المذياع بحلول التلفزيون، كما أن الأخير لم يهزم أمام يوتيوب، وكذلك صالات السينما تشهد إقبالاً رغم الأرقام التي يسجلها نتفليكس وبقية السرب الطويل من المنصات التي اهتدت بهداه، وكذا الصحافة الورقية تعاني من أشد وأحرج مراحلها أمام إعلام جديد يختبر موقعه من عناية الناس واهتمامهم ٬ لكنها ليست نهاية حتمية للصحافة بالضرورة.
مشاركة :