يحدث أن تلعب الأحداث السياسية المتمثلة في نقل الولايات المتحدة سفارتها إلى مدينة القدس دوراً في مضاعفة الاهتمام الإعلامي بالمدينة المحتلة والمحاصرة وهذا طبيعي ومعروف، لكن ماذا لو جاء ذلك على عتبات شهر رمضان الذي تتضاعف فيه أهمية المدينة وحضورها في وجدان الناس؟ عندها سنكون أمام فرصة ثمينة تَحالف في تشكلها حدث سياسي مع آخر ديني، يمكن أن يُستثمر من شاشات فلسطينية كثيرة فاقت الـ12 فضائية وتسخيرها لخلق رأي عام وتوجيه سلوك جماعي يخدم المدينة وأهلها. غني عن القول إن المدينة المحتلة فرضت نفسها على أجندة اهتمام كثير من الفضائيات الفلسطينية والعربية والعالمية. ضخامة الأحداث أمام قداسة المكان ومركزيته في الصراع منحها الامتياز لتكون موضوعاً ومكاناً نابضاً بالأحداث التي تستحق أن تنجذب إليها العدسات وبالتالي تقدم لجمهور الشاشات المتلهف. كل ذلك نظرياً، أما عملياً فيبدو أن ذلك لم يتحقق! فهل جاءت برامج الفضائيات متناسبة مع هذه المدينة وتعكس فهماً لمقدار تحولاتها المركزية؟ متابعة متأنية لما بثته الشاشات الفلسطينية تجعل من المتابع يرى أن هناك مجموعة من البرامج التي قدمتها شاشات مثل: فضائية فلسطين (الشاشة الرسمية)، وفضائية «معاً» (خاصة)، وتلفزيون «القدس التعليمي» (يتبع مؤسسة تعليمية) وقناة «مساواة»، وجل برامجها كانت عن المدينة، وفي ما يلي استعراض لأبرزها وأهم ثيماتها. برنامج «رمضان مقدسي» الذي تقدمه داليا عبدالعزيز ويبث على «فضائية فلسطين»، بدا من حلقته الأولى فاقداً البوصلة أو الزاوية التي يتم التناول من خلالها، حيث نراه تارة يركز على أن القدس حزينة وتعاني من حدث نقل السفارة وإجراءات الاحتلال، وفي الوقت ذاته يقدم القدس على أنها مبتهجة بالشهر الفضيل وتسير فيها الحياة في شكل طبيعي ومعتاد. البرنامج قصير (5 – 7 دقائق) يبدو تقريراً تلفزيونياً أو ريبورتاجاً يومياً يقدم من المدينة ويحاول أن يقدم من خلاله الأسواق ومظاهر الزينة وتراجع السياحة...الخ من الموضوعات التقليدية التي لا تعكس خصوصية للمدينة في ظل تطوراتها الحاصلة. أما برنامج «بتوقيت القدس» (18- 20 دقيقة) وتبثه فضائية القدس التعليمية وهو من تقديم ليالي عيد، فيقدم تعريفاً بالأجواء الرمضانية في المدينة، وينقل لقطات متنوعة من الحياة في الشوارع والأزقة والأسواق القديمة. تتناول فقرات التقرير الميداني مظاهر الحياة مثل: كعك القدس وحلوياتها وكنائسها والطوائف التي تسكنها، كما تستضيف شباب المدينة وبعض فنانيها، وتتناول قصص أشهر مطاعمها. ويتخلل ذلك الأغاني والأناشيد الحماسية. مشكلة البرنامج أنه ميداني ويفترض أن يكون عن القدس في شهر رمضان، لكنه ولظروف إنتاجية صور قبل الشهر الفضيل، ما جعله يفقد كثيراً من جمالية الصورة التي تكونها المدينة فترة الصيام، كما أنه يفتقد العمق في طرح القضايا التي يتناولها. على صعيد الشاشات الفلسطينية العاملة في فلسطين المحتلة عام 1948، تنشط قناة «مساواة» (قناة تابعة للشاشة الرسمية) حيث تقدم برنامجاً وثائقياً يحمل اسم «القدس عبق التاريخ» (10 دقائق). وفي كل حلقة يتناول معلماً من معالم المدينة مثل: كنيسة القيامة، أسواق القدس، الأسوار، الأبواب، قبة الصخرة، حارة الأرمن...الخ. والبرنامج بصورته الحالية لا يضيف أي جديد مع واقع المدينة الحالي، بل ينهل من الموضوعات التقليدية التي قدمت بصور تلفزيونية كثيرة وإن تقدم من ناحية فنيات المحتوى المقدم. فضائية «معاً الإخبارية» تتمسك ببرنامجها السنوي الذي يحمل اسم «ابتسم أنت بالقدس» والذي يقدمه الإعلامي تامر عبيدات وهو عبارة عن برنامج مسابقات وجوائز ميداني برعاية شركة مقدسية، يبدأ بأغنيات حماسية ويركز على تقديم المظاهر الجميلة في المدينة ويلتقي ناسها وزوارها ويتضافر معهم ويمنحهم جائزة مقدارها 50 دولاراً أميركياً. المتمعن بهذه النوعية من البرامج يجد أنها تنتمي إلى نوعية البرامج القصيرة والقصيرة جداً، وهو ما يعكس ضعف التحضير لبرامج طويلة أو أنها جاءت على عجل بفعل متطلبات الأحداث السياسية، بمعنى أنها لم ترتبط بخطط إنتاج معتبرة فنياً ومالياً، فأغلب البرامج تقليدية وميدانية فيها ارتجال كثير وسط غياب تحضير وإعداد جيدين. كثير من البرامج تتقاطع مع بعضها في بعض الفقرات والأمر هنا وإن عكس صغر المساحة الجغرافية للمدينة المقدسة، إلا أنه عنى تصغيراً لمساحة المدينة وحصرها بالمسجد الأقصى والبلدة القديمة ومظاهرها الدينية والجمالية الاستهلاكية، فيما الناس وقضاياهم الكثيرة ظلت بعيداً من الطرح والتناول. وفي كثير من البرامج يستمع المشاهد إلى جمل شعاراتية سياسية مثل: «القدس عاصمة دولة فلسطين» أو «القدس العاصمة» في ثنايا البرامج الفضائية من دون أن نرى كجمهور تغطية أو معالجة إعلامية تعزز هذا الشعار أو تثبت صدقيته أيضاً، وهو لو تم التفكير فيه لجعل من بعض الشاشات تقدم برنامجاً جديداً قولاً وفعلاً. الشهر الفضيل كان فرصة أمام الشاشات التي أخفقت وبجدارة في إعادة الاعتبار للمدينة وفي ترتيب الأولويات التي تعاني منها، وتقديمها للمشاهدين، فجل الحديث انصب حول المدينة وبعض مظاهرها الدينية والاستهلاكية، وذلك بدلاً من تقديم المدينة وما تعانيه وما يفترض أن تكونه عاصمة الحلم. والنتيجة الماثلة تقول إننا (كشاشات فلسطينية) ما زلنا في خانة من لم يدرك التحولات العميقة في جسد المدينة المثخن بالجراح تارة، وطرق السيطرة الناعمة الممارسة بحقها تارة أخرى.
مشاركة :