69 متراً تقريباً هي المسافة التي قطعها الحارس السعودي نهاية أكتوبر ١٩٩٣ بملعب خليفة الدولي في الدوحة. الحارس قطع مسافته من مرماه وصولاً إلى الحفلة الصغيرة الممتزجة بالهيستيريا في منتصف ملعب الفريق الكوري، احتفالاً بهدف المدافع أحمد جميل مدني في الدقيقة الأخيرة لينقذ الأخضر من الخسارة. كل شيء بالنسبة لشاب في الحادية والعشرين مثل الدعيع كان وقعه مضاعفاً ، كفتى يافع مازالت حواسه لم تتعرض للخدش بعد. بالنسبة له الأمر لم يتعلق الأمر بالنشوة المصاحبة لعملية الهروب من الخسارة، وهو ما دعمه أكثر سقوط الدعيع على ركبتيه في بكاء حار ومعاتبة للنفس ولوم ذاتي وحلقات التفكير في العواقب الوخيمة، بالنسبة للحارس الصغير كان الأمر هو هروب من التاريخ، أو بشكل أدق هروب من ارتباط اسمه على نحو أبدي بخيبة الأمل، الإهمال، الأخطاء الكوميدية، سوء اللحظة، اللعنات، وقبل أي شيء بالفشل المتواصل غير المبرر للمنتخب السعودي في التصفيات الآسيوية لكأس العالم. قبل نحو نصف ساعة من لحظة الخلاص بالنسبة للدعيع، كانت الكرة تمر من بين ذراعيه ثم بين قدميه في لقطة من الكوميديا المؤلمة، في محاولة لمنع فشل تسديدة من المهاجم الكوري شينج هونج كي. إنها واحدة من الأسباب التي تجعل من وظيفة حراسة المرمى كابوساً له علاقة بالإخفاقات، أكثر من حصد عبارات التقدير، وظيفة عقابية للتكفير عن خطايا أصحابها. هفوة الدعيع قد تصلح كفصل دراسي في دور الذاكرة في كرة القدم ، فحكم بالإعدام الكروي كان سيتم تنفيذه على حارس فريق الطائي لو كانت رأسية أحمد جمال مدني قد انحرفت بضعة سنتيمترات يميناً او يساراً. شيء سيكون أقرب لمتلازمة اللاعب الفرنسي رينالد بيدروس، الذي تم الإجهاز عليه معنوياً بعد إهداره لركلة ترجيح لمنتخب بلاده أمام جمهورية التشيك في نصف نهائي يورو ١٩٩٦، متلازمة اللاعب الذي لم تقم له قائمة بسبب خطأ تراجيدي شبه يومي، وما يضاعف فداحة الأمر أن هزيمة السعودية في تلك المباراة كانت تعني عملياً الخروج من التصفيات الخامسة على التوالي، خاصة أن جبلا شاهقا مازال بانتظار الفريق في المبارتين المتبقيتين أمام العراق وإيران على التوالي. مفارقة كبرى أن مسيرة الدعيع كانت على وشك النهاية قبل أن يكمل عامه ال٢٢ وفي جعبته أكثر من ٣٠ مباراة دولية برفقة بلاده، هو اللاعب العربي الوحيد الدولي الحائز على لقب عالمي (ربما حتى وقتنا الحالي) كحارس مرمى لمنتخب السعودية تحت ١٧ بطل العالم في اسكتلندا ١٩٨٩، كل هذا لم يكن ليعني شيئا في الثقافة الشعبية السعودية التي عانت الأمرين إلى حد السخرية اللاذعة من فشلها المتواصل في التأهل إلى المونديال، في وقت حصلت فيه ثلاثة منتخبات خليجية بطاقات التأهل في ثلاث نسخ سابقة، الكويت في ٨٢ و العراق في ٨٦، والإمارات في ٩٠. خيبة أمل غير مبررة، لم يكن يضاهيها سوى الفشل المتكرر أيضاً في الفوز بكأس الخليج في أي من نسخه ال١١ السابقة حتى ذلك التاريخ. الفوز بلقبين متتاليين لكأس أسيا خلال الثمانينات ، ومعايشه ربما أفضل جيل عرفه أي منتخب آسيوي خلال العقود الثلاثة السابقة لم يكن له أي معنى حقيقي في ظل الغياب عن المونديال، برفقة أساطير مثل ماجد عبد الله، الثنائي البيشي، محيسن الجمعان، يوسف الثنيان، فهد المصيبح، صالح النعيمة، ومعهم عبد الله الدعيع شقيق محمد الأكبر. شريط كامل من الإحباطات لمدة ١٦ عاماً منذ التصفيات الأولى عام ١٩٧٧، منذ الخروج في مدينة شيراز الإيرانية أمام منتخب أصحاب الأرض في الدور الأول. لاعب كرة يد قبل ست سنوات فقط منذ هفوة ١٩٩٣ كان محمد الدعيع يشق طريقه بسرعة الصاروخ كمهاجم كرة يد، غير مكترث بتكرار مصير شقيقه الأكبر في مسيرة كرة القدم. إلا ان عبد الله أقنع الصغير بأن مستقبله كحارس يقارب طوله ال١٩٠ سم سيكون مشرقاً، حتى الدقيقة الأخيرة أمام كوريا الجنوبية كان اسم الدعيع سيكون مرافقاً للانهيار في الجولة النهائية في تصفيات ١٩٨٢، والتي انتهت بالخسارة بخماسية نظيفة في الرياض أمام نيوزلندا، أو صدمة الخروج من الدور الأول أمام الإمارات دون إحراز هدف واحد في تصفيات مونديال ١٩٨٦، أو الانهيار المماثل في الجولة النهائية من تصفيات ١٩٩٠، بعد أن كان مرشحاً أول للتأهل، وبفوز إعجازي في الدور الأول على سوريا ٥- ٤، كان الحصاد كارثيا في سنغافورة، بفشل متكرر في الحفاظ على تقدم الشوط الأول، واستقبال الأهداف في الدقيقة الأخيرة في مناسبتين، قبل الحلول في المركز قبل الأخير في تلك الجولة. حتى بأفضل الأجيال وبأنصاف الأساطير لم يكن بمقدور السعودية أن تسجل حضورها العالمي الأول. متناقضات الكرة السعودية الأسبوع التالي لمباراة كوريا الجنوبية هو التجسيد الحي لكل متناقضات محمد الدعيع و الكرة السعودية بشكل عام منذ انطلاقها التنظيمي من منتصف الخمسينات، من قمة اليأس إلى غاية الأمل، من الهفوات الكبرى إلى العروض البطولية، وإن كان من أهمها المعضلة الأكبر في المفاضلة بين المدرب المحلي ونظيره الأجنبي، وخاصة اللاتيني حسب تلك المرحلة، فالتعادل مع العراق في المباراة التالية نتج عنه قرار مزلزل بإقالة المدير الفني البرازيلي للفريق كاندينو وإسناد إدارة مباراة إيران الأخيرة قبلها بساعات إلى محمد الخراشي، واحد من أهم الأسماء الفاعلة الفنية في المحيط السعودي خلال حقبة الثمانينات، ومكتشف مجموعة من أهم نجوم الحقبة، ومهندس فرق الناشئين منذ منتصف الثمانينات، نهايةً بتكوين الفريق بطل العالم في ٨٩. ذلك الفوز الأخير على إيران ٤ -٣ بعد واحد من أهم عروض المنتخب السعودي خلال عقد كامل قام بتأكيد المعضلة الأبدية للكرة السعودية ، خاصة أنه ضمن بطاقة التأهل الأولى للمونديال بإدارة وطنية، وهي المعضلة التي عرفها خليل الزياني مدرباً للفريق الفائز بكأس آسيا ٨٤ (و هو ما تكرر مع ناصر الجوهر في التأهل إلى مونديال ٩٨)، ذلك الأسبوع الأخير في الدوحة كان المفجر لكل تلك التساؤلات حول هوية الكرة السعودية فنياً، حول اكتشاف الجمهور للقدرات الخاصة لعبد الله الدوسري، وحمزة صالح وحمزة أدريس وطلال جبرين. ثم تأتي أهمية الخروج من عباءة الثنائيات التي سيطرت على الوضع المحلي للكرة السعودية بين النصر والهلال أو بين الأهلي والاتحاد في جدة، ليخرج من غبار إخفاق مونديال ١٩٩٠ واحد من أهم التشكيلات لأي نادي عربي في التاريخ برفقة نادي الشباب، الذي سيطر على مقدرات الكرة المحلية والقارية العربية خلال تلك السنوات، بفضل أسماء مثل صالح الداوود، فهد المهلل، فؤاد انور، عواد العنزي وسعيد العويران. وحالة النضج التي عرفتها أسماء مثل النجم الصاعد وقتها سامي الجابر وفهد الغشيان ومعهما واحد من أفضل المواهب التي عرفتها الكرة العربية في التسعينات خالد مسعد، نفس المجموعة التي عرفت البروفة الحقيقية لإمكاناتها الفائقة في دورة الألعاب العربية في سوريا ١٩٩٢. ما حدث في أمريكا ٩٤ كان تتمة لحفلة التناقضات التي تتنفسها الكرة السعودية، بداية من تعيين الأرجنتيني خورخي سولاري مديراً فنياً ومعه الخراشي مساعداً، إنعدام الخوف تماماً في المباراة الأولى أمام هولندا، تطبيق نموذجي للهجمات المرتدة أمام فريق قدير في امتلاكه للكرة، تألق حقيقي للدعيع منقذاً أكثر من هدف ثم إسهامه بخطأ طفولي في إهداء الفوز للهولنديين في الثواني الأخيرة (وهي اللعنة التي عاني المنتخب منها آسيوياً طوال تاريخه). التناقضات التي أسهمت في أداء مميز أمام المغرب الشوط الأول ثم تراجع مقلق في النصف الثاني، ثم قهر مكاتب المراهنات التي توقعت فوز البلجيك على السعودية بتساعية نظيفة في آخر مباريات المجموعة، ليضمن وصيف بطل آسيا وقتها تأهله الأول إلى الدور الثاني بفوز فائق الشهرة على رفاق جيريتس وإنزو شيفو ، إنها التناقضات التي عرفت ذورتها بعرض متوسط أمام السويد في ثمن النهائي، حافل بهفوات الدفاع والإجهاد البدني والذهني، وقلة الخبرة. جرعة الأكسجين البكاء الحار الذي مر به الدعيع في نهاية مباراة كوريا الجنوبية في منتصف تلك الرحلة المجنونة لمنتخب بلاده لم يكن رد فعل انفعاليا مبالغا فيه، في التحول الأكبر لأي منتخب وطني على المستوى الآسيوي في التسعينات، مع الوضع في الاعتبار أن هدف أحمد جميل مدني أعطى الأكسجين لجيل فاز بعد مونديال أمريكا بكأس الخليج للمرة الأولى، ثم بكأس آسيا (ليس من قبيل المفاجأة أن يكون الخراشي هو مهندس الفوز باللقبين)، قبل أن يحجز المنتخب تأهله الثاني على التوالي في فرنسا ٩٨، صاحبها فترة رخاء في المسابقة المحلية، وتألق مماثل لفرق الناشئين والمنتخب الأوليمبي، وقبل أي شيء كان الأكسجين لمسيرة الدعيع نفسه التي توج فيها في مطلع الألفية الحالية بلقب عميد لاعبي العالم في عدد المباربات الدولية برفقة المنتخب. ربما تكون المفارقة الأكبر هي أنه كلما انتابت الكرة السعودية حالة التيه النسبي دوماً كانت تعود لجماهيرها حالة النوستالجيا (الحنين للماضي) بشأن مونديال ٩٤، دون أن تعير اهتماماً لكل تقلبات التجربة وقدرتها الخاصة في كشف تناقضات الكرة المحلية، لتندخل في متاهاتها المعتادة حول البحث عن هويتها وثقافتها الكروية التي تحظى بقدر من الثراء في تجربتها، إنها رحلة يختصرها الكثيرون مع هدف سعيد العويران الماردوني في بلجيكا شكلاً، دون إدراك أن الرحلة التي خاضها لاعب الوسط من نادي الشباب كانت على قدر كبير من الوعورة، والتعرجات ، والتأقلم، والصبر، والاصطدام بالفشل للحظة، والقدرة على استعادة الاتزان، وقدر من الحظ، وفي النهاية الاعتقاد بأن المشوار ممكن وأن إحراز هدف ماراثوني وتسجيل بصمة ما في الكرة العالمية من الأمور الممكنة، وليس من قبيل الهذيان. ليس من قبيل الصدفة أن تكون المسافة التي قطعها العويران لتسجيل هدفه هي ٦٩ متراً أيضاً، ولكنها ربما استغرقت ١٤ عاماً حتى تكتمل بعبور الكرة لخط المرمى في نهاية المطاف.
مشاركة :