حياة صامتة وأغنيات صاخبة في مذكرات بوب ديلان

  • 6/15/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

تبدأ «مذكرات ديلان» (دار روايات، ترجمة عبد الوهاب أبو زيد) في مدينة نيويورك عام 1961، حيث الاحتمالات الساحرة، والأبخرة المتصاعدة من الأرض، وحفلات الليالي الطويلة الحمراء، والحركات الأدبية والفنية الوليدة. من نعتبرهم شخصيات أسطورية الآن، كانوا يمشون حينئذ في شوارع منهاتن، يلتقيهم بوب، الواحد إثر الآخر. يتعلّم أسلوبا جديدا من هذا، وتكنيكاً آخر من ذلك، وينام على أريكة في مكتبة صديق، ويستمع إلى أسطوانات الفونوغراف في شقة عشيقة. في الفصل الأول من المذكرات وعنوانه «إصابة هدف أعلى»، نتبع خطى ديلان مع جون هاموند، مكتشف المواهب العظيم الذي اكشف فنانين كبارا وأسماء مهمّة في تاريخ الموسيقى المسجلة، فيصرف وقته في استديوهات التسجيلات، ومطعم جاك ديمبس في تقاطع الشارع الثامن والخمسين من شارع برودواي، مقهى أوتريه، ملهى غازلايت، مطعم ميلز تافرن في شارع بلكير. أو نراه في شركة كولومبيا ريموردز، حيث الغرف تكتظّ بصناديقٍ متراكمة تحوي أوراق نوتات موسيقية، ومواعيد تسجيل لفنانين مختلفين مُلصقة على ألواح جدارية، وأقراص مطلية باللون الأسود، واسطوانات ذات ملصقات بيضاء قد تبعثر في كل مكان وصور فننين تحمل تواقيعهم، بورتريهات لامعة صقيلة السطح. وهنا يسترجع أغنية «لا أحد يعرفك حين تكون مفلساً»: «خارج مطعم ميلز تافرن، كان الثيرموستات يشير إلى درجة حرارة أقل من الصفر، بعشرة درجات. كان نَفسي يتجمّد في الهواء، لكنني لم أحسّ بالبرد. كنت متوجهاً صوب أضواء الشهرة الرائعة. ما من شكّ في ذلك. هل من المحتمل أنني خُدعت؟ هذا مستبعد. لا أظنّ أنني أتمتع بما يكفي من الخيال لأُخدع. ولكن لديّ أمل زائف أيضاً. لقد قطعت مسافة لا بأس بها وبدأت من مسافة لا بأس بها. لكنّ القدر الآن على وشك أن يكشف لي مآلاتي. شعرت بأنّه يحدق فيّ، لا في أيّ أحد آخر أبداً». في الفصل الثاني «الأرض المفقودة»، يأخذنا ديلان إلى «البدايات» حيث طفولته وتلك البيئة التي عاش وترعرع فيها. ولد في ربيع 1941، وكانت رحى الحرب العالمية الثانية لا تزال تدور في أوروبا، وسرعان ما ستلحق بها أميركا. العالم يتهاوى، والفوضى تمدُّ قبضتها نحو وجوه كلّ الزوّار الجدد إلى الدنيا. يخبرنا كيف كان يشعر ويفكر في مدرسته الابتدائية، عندما كان لا يزال الخوف من الروس في ذروته، فيتدرب الطلاب على الاختباء والاحتماء بالطاولات حين تنطلق صافرات الإنذار. يتحدث عن هتلر، وتشرشل، وستالين، وموسليني، وروزفلت. «رجال اعتمدوا على إرادتهم وحدها، في السرّاء والضرّاء، وكلّ واحد منهم كان على أهبة الاستعداد ليتصرف وحده، غير عابئ بمن يوافقه الرأي- غير عابئ بالثروة أو الحب، وكلّ واحد منهم يتحكم بمصير البشرية، محوّلاً العالم إلى رُكام». يحب التنقل والحركة، القطارات، وعربات النقل الكبيرة وعربات الشحن وعربات البولمان مصدر اطمئنان له. تشكل جزء كبير من ذاكرته من تلك اللحظات في قطار يقطع المسافات على سكك الحديد التي تربط الأرياف. «صوت القطارات الآتي من بعيد كان يشعرني أنني في مكان أنتمي إليه، من دون أن ينتابني فقدُ شيء ما، كما لو كنت في مكان آمن، من دون أن يداهمني الشعور بالخطر وأنّ كل شيء في مكانه الذي ينبغي أن يكون فيه». عن قراءاته يحدثنا عن غوغول، بلزاك، موباسان، وهوغو، وديكنز... يبحث عمّا لم يحظ به من التعليم النظاميّ. قرأ: «الصخب والعنف» لوليام فوكنر وأقر أنه لم يستوعبه تماماً. يخبرنا عن تأثره واعجابه بإدغار ألن بو وتحديدا قصيدة «الأجراس». أحبّ بلزاك كثيراً، واعتبره ظريفاً دائماً. فلسفته واضحة وسهلة، وتقول ببساطة إن المادية المحضة تقود إلى الجنون، «احشد طاقتك، هذا هو سرّ الحياة». عندما يسأله أحدهم عن أبطال طفولته يجيب: «روبن هود، والقديس جورج مجندل التنانين». فقد كان طفلاً نحيلاً انطوائياً مصاباً بالسل. تعلم أنه ربما ينبغي البدء في تغيير نمط تفكيره ودواخله والإيمان باحتمالات، لم يكن يتيح لها المجال من قبل، نَفَرَ من الألفة: «صرت آلف الأشياء من حولي وربما توجّب عليّ أن أجتثّ تلك الألفة». تحت عنوان «أيتها الرحمة»، يتحدث فيها عن حالته عندما تعرّض لحادث شنيع ضرب يده التي تمزقت حتى العظم بحيث أصبحت قدرته على العزف مهددة تماماً. يصفها بأنها «كانت تجربة مفعمة بالحكمة»، يتحدث عن عزلته، عندما اختار مكاناً محاطاً بالأيائل والدببة والغزلان، عاش السكون المفرط، وشعر أنه حطام وحسب، فقرر التوقف عن الغناء والانسحاب من المشهد. وفي فصل «نهر الجليد»، يخبرنا عن عودته الفنية، وعن أغانيه، وكيف يكتبها، فيقول: «ثمة ترياق عظيم في الكلمات. قدْر كبير من الأحداث يُكشف عنه النقاب، كل جملة تتقدّم نحوك من مسافة بعيدة، تعدو سريعاً، على الطريق، ثم تتبعها جملة أخرى مثل لكمة على الذقن». يصف لنا ردود فعل الجمهور تجاه كلمات أغانيه الصادمة. غير النمطية، واللامألوفة. هذا الكتاب هو رحلة هادئة، معالمها واضحة، كتبت بقلم اعتاد أن يقول ما يريده مباشرة، منذ تلك اللحظة التي راح يبحث فيها عن شيء يجهله في مكتبة نيويورك العامة، المبنى الضخم ذي الأرضية والجدران الرخامية والمغارات الواسعة المليئة بالكتب. «الأغنية مثل حلم تحاول أن تجعله يتحقق. إنها مثل بلدان غريبة، يتوجّب عليك دخولها. تستطيع كتابة الأغنية في أيّ مكان، في عربة قطار، على سطح قارب، فوق ظهر حصان- الحركة تساعد في الكتابة. أحياناً لا يستطيع أعظم الناس موهبة في كتابة الأغنيات، كتابتها لأنهم لا يتحركون». استثمر جيدا حقيقة أنه ولد وعاش في زمن كانت فيه أميركا تتغيّر. تنبّأ بالأقدار، فامتطى صهوة التغيرات. أخذ وعيه يتبدل ويتمدد وعلم أنه إذا أراد أن يؤلّف أغان شعبية فعليه أن يعثر على قالب جديد، وعلى هوية فلسفية، عليها أن تأتيه بهدوء على رسلها، هو الذي كان يفعل كل شيء بسرعة: «الأكل والمشي والعزف». تعلّم كيف يتأمل ويعثر على ما يريده في داخله، بحيث غدا بوب ديلان شخصية مؤثرة في الموسيقى والثقافة الشعبية الأميركية لأكثر من خمسة عقود. ضمّن كلمات أغانيه الحكمة مشوبة بروح الاحتجاج، والرفض، ما دفع حركات الحقوق المدنية للأفارقة الأميركيين والحركة المناهضة لحرب فيتنام إلى استخدام بعض أغنياته كأناشيد لهم. تلقى إحدى عشرة جائزة غرامي، وجائزة أوسكار، وجائزة غلدن غلوب، قبل أن ينال جائزة نوبل للآداب عام 2016.

مشاركة :