في وليمة عُرس اختلط الكرم بالإسراف، ووضعت الذبائح أمام الحضور، وتقدم الجميع في همة ونشاط نحو الطعام، وبعد مدة يرفع الجميع أيديهم ويأتي الخدم لرفع بقايا الطعام والذهاب بها إلى حاويات النفايات بقايا يسيل لها لعاب العديد من الناس في البلاد الفقيرة، ذبائح أكل منها النذر اليسير وأخرى لما تنل منها الأكلة لوفرتها ألقي بالبقايا في الحاويات وجاءت سيارات جمع القمامة فتذهب بها بعيدًا في مكبات القمامة، تأتي الجوارح وتهبط هاوية على الذبائح، تنادي الطيور والكلاب والضباع ولكن أعداد الذبائح كثيرة. منظر مكرور عند كل عرس، وكل وليمة وكل مناسبة أو اجتماع، وهنا تذكرت الموقف التالي من تلك المرأة المسلمة التي علمتنا عمليًا كيف تتعامل مع الذبائح ونستفيد من كل أجزائها في عملية عجيبة. الموقف: فقد أهدى ابن عم المرأة المسلمة أضحية، فرآها رجل كئيبة حزينة مفكَّرة مُطْرفة: فقال لها: مالك يا معاذة؟!! قالت: أنا امرأة أرملة وليس لي قيَّمُ ولا عهد لي بتدبير لحم الأضاحي. وقد ذهب الذين كانوا يُدَبَّررونه ويقومون بحقه، وقد خِفت أن يضيع بعض هذه الشاة، ولست أعرف وضع جميع أجزائها في أماكنها، وقد علمت أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق فيها ولا في غيرها شيئًا لا منفعة فيه ولكن المرء يعجز لا محالة، ولست أخاف من تضييع القليل إلاّ أنه يجُرُّ إلى تضييع الكثير. قالت معاذة: أما القَرْنُ فالوجه فيه معروف وهو أن يُجعل منه كالخطاطيف ويُسمَّر في جذع من جذوع السقف فيعلق عليه الزُّبْلُ والكيران وكل ماخيف عليه من الفأر والنمل والسنانير «القطط» وبنات وردان «الصراصير» والحيات وغير ذلك. وأما المُصران، فإنه لأوتار المندفة وبنا إلى ذلك أعظم الحاجة. وأما قِحْفُ الرأس واللّيحان «عظم الفك وسائر العظام» فسيله أن يكسَّر بعد أن يُعَّرق ثم يطبخ فما ارتفع من الدسم كان للمصباح والإدام والعَصيدة ولغير ذلك. ثم تؤخذ تلك العظام فيوقد بها فلم يَرَ الناس وقودًا قط أصفى ولا أحسن لهبًا منها، وإذا كانت كذلك فهي أسرع في القِدْر لقلة ما يخالطها من الدُّخَان . وأما الإهابُ، فالجلد نفسه جِراب، وللصوف وجوه لا تعد، وأما الفَرْثُ والبَعْرُ فحطب إذا جَفَّ. ثم قالت المرأة: بقى علينا الآن الانتفاع بالدم وقد علمت أن الله سبحانه وتعالى لم يُحرَّم من الدم المسفوح إلاّ أكله وشربه، وأن له مواضع لا يُمنع فيها، وإن أنا لَمْ أقع على علم ذلك حتى يوضع موضع الانتفاع به صار كيّةً في قلبي، وقذىً في عيني، وهمًا لا يزّال يُعَاودني . قال الراوي: فلم ألبث أن رأينها قد تطلّقت وتبسمت فقلت: ينبغي أن يكون قد انفتح لك باب الرأي في الدم. قالت: أجل إن عندي قدورًا شامية جُدُوًا «جديد»، وقد زعموا أنه ليس شيء أدْبَغُ ولا أزيدُ في قوتها من التلطيخ بالدم الحار الدَّسِم . وقد استرحت الآن إذ وقع كل شيء موقعه. قال الراوي: ثم لقيتها بعد ستة أشهر فقلت لها: كيف كان قديدُ اللحم المقدد لتلك؟!! قالت: بأبي أنت وأمي لم يجئ وقت القديد بعدُ، لنا في الشحم والإلية والجنوب والعظم المُعَرَّق وفي غير ذلك معاش ولكل شيء إبان. العبر: هكذا سبقت هذه المرأة المسلمة علماء التغذية والبيئة والاقتصاد والصحة والتنمية المستدامة في بيان أهمية كل مخلفات الذبائح. لقد كانت هذه المرأة عليمة وموقنة بقدرة الله وحكمته فقالت: وقد علمت أن الله لم يخلق فيها ولا في غيرها شيئًا لا منفعة فيه ولكن المرء يعجز لا محالة وهذا تصديق لقول الله تعالى: «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ» (القمر: 49). وقال تعالى: «وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ» (الحجر: 19). قالت: ولست أخاف من تضييع القليل إلاّ أنه يَجُرُّ إلي تضييع الكثير. أي أن التدبير تعلّم وتربية وسلوك وعدم الاستهانة بتضييع القليل لأنه يَجُرُّ إلى تضييع الكثير. قالت المرأة: وقد علمت أن الله عز وجل لم يُحرَّم من الدم المسفوح إلاّ أكله وشربه وأن له مواضع يجز فيها ولا يُمنع منها . فهي بذلك تدلل على علمها بالحلال والحرام. قالت: وإن أنا لم أقع على علم ذلك حتى يوضع موضع الانتفاع به صار كية في قلبي وقذى في عيني وهمًا لا يزال يعاودني، وهذا يدلل أنها تعلم أن لكل شيء علمًا عَلِمَه من عَلِمَه وجهله من جهله. وعلى الجاهل أن يقلق ويتحسَّر على نفسه حتى لا يُصاب باللاّمبالاة والجهل المُرّكب. هذا درس عملي في التربية وتدبير أمور الحياة علينا أن نعلمه لأبنائنا وعلينا تحويل مناهج البيئة في التعليم العام ومناهج مهارات الحياة من النظري إلى العملي والتطبيق.
مشاركة :