تناولت معظم وسائل الإعلام الغربية والشرقية التي اطلعتُ عليها في السادس من يونيو من العام الجاري خبراً حول إصابة الدبلوماسيين الأمريكيين العاملين في الصين بمرضٍ غريب وغامض، أو الشعور بحالة مرضية فريدة من نوعها تتمثل في آلام في الرأس والأذن، وصداع شديد، وصعوبة في النوم، وعدم القدرة على التركيز، والشعور بالإرهاق والتعب، وفقدان تدريجي في السمع. فعلى سبيل المثال، نقلتْ صحيفة الواشنطن بوست الخبر تحت عنوان: «المرض الغامض يضرب الدبلوماسيين الأمريكيين في الصين ويوقع ضحايا»، حيث جاء في الخبر أن وزارة الخارجية الأمريكية أفادت بإجلاء دبلوماسيين أمريكيين وأُسرهم الذين يعملون في القنصلية في مدينة جينيس (Guangzhou) الصينية للكشف على حالتهم الصحية وإخضاعهم للفحوص الطبية العاجلة بسبب تدهور صحتهم وتعرضهم لأعراض مرضية غريبة ناجمة عن ضوضاء وأصوات غير طبيعية وغير عادية لم يألفوها من قبل، كما صرحت الخارجية بأنها أرسلت فريقاً متخصصاً لدراسة أوضاع باقي العاملين. أما النيويورك تايمس فقد أصدرت الخبر تحت عنوان: «حالة طبية غريبة تتطور بين الدبلوماسيين الأمريكيين في الصين»، كما أن المحطة الإخبارية الـ«سي إن إن» بثت الخبر تحت عنوان: «وزارة الخارجية ترسل بعض الدبلوماسيين إلى أمريكا للفحص الطبي بعد الحادثة الصوتية في الصين»، وقامت بنقل تصريح وزير الخارجية مايك بومبيو في مايو من العام الجاري في جلسة استماع الشؤون الخارجية للكونجرس إذ أفاد بأن الحالة المرضية التي تعرض لها الدبلوماسيون في الصين مشابهة جداً ومنسجمة مع الحالة المرضية للدبلوماسيين في كوبا، ولكن السبب غير معروف حتى الآن. كذلك أوردت صحيفة الإندبندنت البريطانية الخبر تحت عنوان: «وزارة الخارجية الأمريكية تفيد بأن بعض الدبلوماسيين في الصين تعرضوا لأصوات غير عادية وهجوم صوتي كزملائهم في كوبا». والجدير بالذكر أن هذه الأعراض الغريبة وهذه الحالة المرضية الغامضة التي يعاني منها بعض الدبلوماسيين الأمريكيين في الصين منذ أبريل من العام الجاري ليست هي الأولى من نوعها، فقد تم إعلان حالة مشابهة للدبلوماسيين الأمريكيين العاملين في العاصمة الكوبية هافانا منذ عام 2016 حتى أغسطس 2017، وقد نشرتُ مقالاً في «أخبار الخليج» في 29 أكتوبر 2017 تحت عنوان: «ماذا حدث لموظفي السفارة الأمريكية في كوبا؟»، حيث تم سحب 24 دبلوماسياً من كوبا في 29 سبتمبر وإجراء الفحوص الطبية عليهم لتعرف مصدر وسبب الشكوى الصحية المزمنة التي يعانون منها. كما أن كندا بعد أشهر، وبالتحديد في 16 أبريل من العام الجاري، وللسبب نفسه سحبت بعض دبلوماسييها، بحسب ما ورد في صحيفة الـ«يو إس توداي» الأمريكية. ومنذ إعلان هذا المرض الغامض في كوبا والآن في الصين، انكشفت عدة نظريات وظهرت عدة روايات لتفسير هذه الحالة الصحية النادرة والغريبة على المستوى الدولي. أما مجلة النيوزويك الأمريكية فقد نشرت تحقيقاً في 31 مايو من العام الجاري أفادت فيه بأن هذه الحالة الصحية النادرة ربما تكون بسبب تعرض الدبلوماسيين للأمواج الصادرة من أجهزة المراقبة والتنصت وغيرهما، حيث إن «الأسلحة الصوتية» المستخدمة في التجسس والاتصالات تكون تردداتها إما مسموعة أو غير مسموعة ولكن الإنسان يشعر بذبذباتها ويعاني منها إن استمرت فترة طويلة. وفي المقابل أشارت دراسة علمية أجريت في جامعة بنسلفانيا الأمريكية على الدبلوماسيين القادمين من كوبا وبتكليفٍ من وزارة الخارجية إلى أن حالة المصابين تشبه حالات وقوع «الارتجاج البسيط في المخ» عند حدوث أي صدمة خفيفة يتعرض لها المخ، ولكن لم يصلوا إلى أي نتيجة واضحة وقوية، ولم يقدموا دليلاً دامغاً على أسباب ومصدر ظهور هذه الحالة، ونُشرت هذه الدراسة في مجلة جمعية الأطباء الأمريكيين في 15 فبراير من العام الجاري. أما الباحثون في جامعة ميتشجان الأمريكية فأرجعوا سبب هذه الظاهرة الصحية النادرة في كوبا إلى الأمواج الصوتية، أو الهجوم الصوتي، ولكن السبب مازال مجهولاً. وفي المقابل نشرت صحيفة النيويورك تايمز مقالاً في العاشر من أكتوبر عام 2017 تحت عنوان: «الأصوات الغامضة والمرض المخيف كأداة سياسية»، وفحوى هذا المقال هو التشكيك في الرواية الحكومية الرسمية، والادعاء أن الحكومة استخدمت هذه الحالة المرضية لأغراض سياسية تمهيداً لتغيير موقف أمريكا تجاه كوبا. كما أن بعض الخبراء في مجال علم طب الأعصاب أشاروا إلى أن هذه الحالة قد تُفسر بأنها نوع من الجنون أو «الهستيريا الجماعية»، وهو حالة نفسية عصبية أعراضها تتمثل في حدوث خللٍ في الحس والحركة بسبب وجود القلق والخوف والاضطرابات النفسية من وضعٍ معين، أو حالة محددة. أما الرواية الرسمية التي نشرتها الحكومة الأمريكية فقد أكدت تعرض الموظفين في السفارة الكوبية لنوعٍ من السلاح أُطلق عليه «الهجوم الصوتي» أو «الهجوم السمعي» (sonic attack)، ولكن من دون تقديم التفاصيل الأخرى، سوى نشر هذه الأصوات التي تعرضوا لها في 14 أكتوبر 2017 على وسائل الإعلام، في حين أن الرواية الرسمية اليوم لحادثة الصين اختلفت عن الرواية السابقة وتفيد بعدم معرفتها للمصدر أو الأسباب! وفي تقديري فإن ما حدث بالفعل للوفد الأمريكي في كوبا أو في الصين سيبقى سراً غامضاً إلى بعض الوقت، وستكشفه لنا الأيام عاجلاً أو آجلاً عندما يزال الستار ويُكشف النقاب عن أرشيف هاتين الحادثتين.
مشاركة :