جماليات الدراما البوليسية: تجربة يوسف الشريف في أربعة أعمال

  • 6/17/2018
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

استطاع الفنان يوسف الشريف أن يحفر اسمه بقوة، ليصبح واحداً من أهم نجوم الدراما التلفزيونية المصرية، وصار له جمهور كبير يثق في اختياراته، وينتظر أعماله من السنة إلى السنة، لا سيما في شهر رمضان الذي أصبح بالنسبة إلى جمهور التلفزيون المصري والعربي شهر الأعمال الجديدة. وبالرغم من تأثر الشريف بالدراما الأميركية واتهامه أكثر من مرة بسرقة الأعمال الأجنبية إلا أننا، في كل الأحوال، لا نستطيع أن نغض الطرف عن تميز هذه الأعمال وتفردها وسط هذا الكم الهائل من المسلسلات التي تمطرها علينا الفضائيات في شهر رمضان من كل عام. كما أن التنوع في الموضوعات التي يقدمها الشريف وفريق العمل المتميز الذي يقف وراءها يجعلاننا لا نكتفي بالوقوف عند حدود النوع الدرامي البوليسي التشويقي الذي يميز هذه الموضوعات دون محاولة البحث عن رسائل مضمرة يمكن أن تحملها هذه الأعمال. في هذه المقالة سنحاول أن نقدم قراءة خاصة لأربعة مسلسلات قام يوسف الشريف ببطولتها وحققت نجاحات كبيرة، ونرى من وجهة نظرنا أنها تحتوي على دلالات تتجاوز مجرد الشكل البوليسي التقليدي، الذي يعتمد على الجريمة اللغز التي لا تحل إلا في نهاية الحلقات. وبدلاً من ذلك هي تقدم عالما غرائبيا تم بناؤه بعناية، وهو عالم غريب في تراكيبه، واقعي في مفرداته، تضيع فيه الهوية الثابتة من خلال جدلية عجيبة بين البناء والهدم، الوجود والعدم، بحيث تذوب الهويات، ولا تبقى سوى العلاقات التي تتغير بدورها، وفي كل مرة تجلب معها هوية جديدة، وبهذا المعنى لا نكون إزاء البنية (لغز – حل) ولكن إزاء البنية (لغز – حل – لغز – حل…) فالألغاز لا تنتهي، والحلول ما تلبث أن تتحول إلى ألغاز أخرى. أما عن المسلسلات فهي: “رقم مجهول”، “اسم مؤقت”، “الصياد”، “لعبة إبليس”. رقم مجهول، أمان مفقود، واقع رخو "رقم مجهول" حالة عامة تلف الوجود الإنساني "رقم مجهول" حالة عامة تلف الوجود الإنساني مسلسل “رقم مجهول” من إخراج أحمد جلال وتأليف عمرو سمير عاطف، يدور حول المحامي “علي” الذي يعمل في مكتب كبير للمحاماة ويعاني من ضائقة مالية نتيجة تأخره في دفع القسط الأخير من ثمن الفيلا التي اشتراها في التجمع الخامس، وأثناء ذلك يتورط في جريمة قتل في شقة بالمقطم، ثم يتلقى في اليوم التالي مكالمة هاتفية من مجهول يعرف تفاصيل الجريمة ويرسل إلى علي صوراً فوتوغرافية التقطت من مسرح الجريمة تثبت ارتكابه لفعل القتل. ثم تتوالى الأحداث المثيرة التي تصور ابتزاز صاحب الرقم المجهول لعلي ودفعه إلى ارتكاب المزيد من الجرائم من ناحية، وتصور رحلة علي في البحث عن صاحب الرقم المجهول من ناحية أخرى. ومن خلال أحداث متشابكة ومرهقة نكتشف أن المجهول ليس مجرد رقم الهاتف المرعب أو صاحبه المزعج، لكنه حالة عامة تلف الوجود الإنساني وتسبب الخوف والقلق والحيرة لشخصيات المسلسل. فالمجهول الذي يواجهه علي هو ذلك الشخص الذي اقتحم الفيلا في أول مشهد من الحلقة الأولى من المسلسل، وهو الظلام الذي يطوق الفيلا ليلاً في مدينة جديدة نائية، وهو الماضي المشين الذي تخفيه عنه زوجته عندما كانت تدمن المخدرات، وهو زملاؤه في المكتب غريبو الأطوار، الذين يملكون أكثر من سبب لمحاصرته ودفعه إلى الهاوية، وهو أخيراً الجثة التي دفنها في الحلقة الأخيرة وتلقى العزاء على أنها لأخيه بينما هي لشخص آخر تم استبداله في اللحظات الأخيرة، دون أن يعرف علي أن أخاه ما زال على قيد الحياة، ويستمر في ابتزاز أناس آخرين لمواصلة الطريق الدامية التي بدأها معه. في طريق البحث عن صاحب الرقم المجهول، يكتشف علي -الذي يعيش في فيلا في التجمع الخامس ويرتكب جريمة في شقة في المقطم– عوالم أخرى مجهولة وأناسا كثيرين مجهولين يعيشون على هامش المدينة، كالحشرات السامة تحت الأرض وداخل الشقوق في المناطق العشوائية المنتشرة في الأحياء الشعبية. وفي ظل هذه الأجواء يكتشف علي أن الأمان ليس في وجود المسدس تحت ملابسه ولا في سيارته الفارهة أو فيلته الفخمة، ولكنه شعور داخلي متعمق في النفس الإنسانية، شعور يفقده الإنسان عندما يعجز عن الفهم، ويخيم المجهول على كل شيء.. تتطور المعرفة لدى علي لكن من مجهول إلى مجهول، فالضوء الذي يتم إلقاؤه على أي بقعة مظلمة هو نفسه الذي يكشف عن المزيد من الظلام، لأن الحقيقة أكبر من أن يستوعبها ضوء إنساني نسبي وشحيح، يدفع علي ثمن المعرفة غالياً، لكنه لا ينجح في حسم قضيته مع المجهول، الذي يأبى إلا أن يطمس ملامحه ويدفعه نحو الجنون. الأمان يضيع عندما يتحول الواقع إلى شيء رخو، أشبه بالرمال المتحركة. فكل خطوة يخطوها علي من شأنها أن تغوص به في أعماق سحيقة لا يعلم مداها. هذا الواقع الرخو هو الذي يجعل الشخصيات هلامية باهتة، لا تستقر على حال، إنها جحيمه الخاص الذي ينفذ فيه عقوبته على ما ارتكبه من آثام في حياته الماضية التي ظنها حياة ملائكية بريئة. ليس الإنسان هو الذي يحدد الجريمة والعقوبة، لكن قوى أخرى مجهولة، قد تكون بعيدة تحركنا عبر مكالمات مجهولة على الهاتف، وقد تكون قريبة منا جداً بحيث تتوحد مع أنفسنا أو تفترق عنا قليلاً لتشاركنا قهوة الصباح الدافئة. لا تقتصر رخاوة الواقع على الأحداث والشخصيات فحسب، إنما تمتد إلى القوانين والإجراءات التي تحكمنا بحيث يتحول مفهوم العدالة نفسه إلى كيان رخو، يتشكل تبعاً للأدلة والبراهين التي يتم اصطناعها بحرفية في مكاتب المحامين الكبار. فالجريمة والعقوبة والعدالة كلها مفاهيم نسبية ما تلبث أن تنهار مع تطور الأحداث ذات الطابع الوجودي المهترئ. فإما نرتضى الدخول في لعبة الميكانو وتبادل الأدوار، وإما نسقط في دوامة كبيرة من التيه والعدم. اسم مؤقت، عالم زائل، يقين متصدع "اسم مؤقت".. حيوات مختلفة في عوالم مختلفة "اسم مؤقت".. حيوات مختلفة في عوالم مختلفة في هذا العمل الذي أخرجه أحمد جلال وكتبه محمد سليمان عبدالمالك، يصل رجل الأعمال “يوسف رمزي” إلى مصر بعد رحلة عمل طويلة في الخارج لاستثمار أمواله في بلده الذي غاب عنه طويلاً من خلال دعمه لأحد مرشحي الانتخابات الرئاسية في ذلك الوقت، إلا أنه يتعرض لحادث مدبر يفقد على إثره الذاكرة، ويبدأ رحلة بحث طويلة ومضنية عن هويته الحقيقية. وبالرغم من التيمة التقليدية التي يستهل بها المسلسل أحداثه إلا أن النظرة المدققة للتفاصيل الصغيرة في المسلسل من شأنها أن تنقلنا إلى مستوى من الفهم أعمق؛ فاختيار اسم الشخصية المحورية يوسف رمزي فيه إشارة صريحة إلى رمزية العمل ورمزية الشخوص والأحداث والتفاصيل، كما أن اختيار اسم المسلسل “اسم مؤقت” فيه أيضاً إشارة قوية وصريحة إلى صفة “التأقيت والزوال” التي تسم الذات والعالم والشخوص التي من حولنا. فيوسف رمزي يكتشف في كل خطوة اسماً جديداً كان يحمله، وبطاقة هوية مختلفة، وشخصيات عديدة ومتكررة، تلعب أدواراً مختلفة في حياته، يحدث هذا مع كل الشخصيات بدءاً من الأم، ومروراً بالحبيبة والصديق والزوجة والابنة والطبيب المعالج، وانتهاءً بسائق التوكتوك الذي كان يصطحب يوسف في رحلته البحثية المثيرة والدامية. يكتشف يوسف أنه كان يعيش حيوات مختلفة في عوالم مختلفة، لاعباً أدواراً مختلفة بأسماء مؤقتة محيرة في أطوار عديدة أشبه بتناسخ الأرواح. يحدث هذا على المستوى النفسي والاجتماعي، وأيضاً على المستوى السياسي، فالأحداث تكشف لنا أن كل مرشحي الانتخابات الرئاسية ما هم في الحقيقة إلا مجموعة من الأسماء المؤقتة التي تؤدي أدواراً مؤقتة، تحركها قوى عليا تتحكم في الجميع في ظل غياب الإرادة الحرة، والحزب القوي، والشعب الواعي. فكلها عناصر تعمد السيناريو بذكاء إغفالها وإقصاءها تماماً من المشهد الدرامي الساخن. فهي عناصر توقفت عن أداء دورها الحقيقي، لأنها فقدت هويتها وذاكرتها مثل يوسف رمزي، لتصبح رمزاً لفقدان القدرة على الفعل والوقوع فريسة لقوى رد الفعل. إن أهم ما نجح فيه المؤلف، بعد إبرازه لفقدان الهوية وزوال العالم، إنما هو إبرازه لتصدع اليقين، فالعوالم التي كان يكتشفها يوسف ما يلبث السيناريو أن يهدمها ويقيم عوالم أخرى بالشخوص أنفسهم، لكن بأسماء جديدة وأدوار جديدة، الأمر الذي أربك يوسف وأفقده اليقين في نفسه وفي العالم وفي الشخصيات العزيزة التي كانت مقربة إليه، وهو الشعور نفسه الذي انتاب المشاهد وانتاب مرشحي الرئاسة عندما كشفت الحقيقة عن وجهها الخفي، الذي لا يمكن أن يراه أحد مهما بذل من جهد ومهما اقترب من مصدره. إنها دوامة كبرى تبتلع الجميع، وليس ثمة من حقيقة ثابتة سوى الدوران في دائرة سديمية من التيه الممتد إلى ما لا نهاية. وليس أدل على ذلك من النهاية المعبرة التي ختم بها المسلسل أحداثه الغرائبية الملغزة، عندما خرج يوسف رمزي من المصحة التي كان يعالج فيها، على كرسي متحرك، يحمل بطاقة هوية جديدة باسم مؤقت جديد، ثم تنقله سيارة المصحة إلى حيث يسافر إلى عالم جديد، ليؤدي دوراً جديداً، في ظل نظرة ساهمة للوجود، وغياب كامل عن الوعي. الصياد، عدالة عمياء وبصيرة غاشمة عندما تطفأ الأنوار يصير الكفيف هو الأكثر قدرة على الرؤية من المبصرين عندما تطفأ الأنوار يصير الكفيف هو الأكثر قدرة على الرؤية من المبصرين في مسلسل “الصياد” الذي أخرجه أحمد مدحت وكتب له القصة أحمد سمير عاطف يقدم يوسف الشريف حلقة جديدة مثيرة ومشوقة في سلسلة أعماله البوليسية التي بدأها في “رقم مجهول”، وهو العمل الذي تأكدت به نجومية الشريف، وتحددت معالم الطريق الدرامية المميزة التي اختطها لنفسه وسط طوفان هائل من المسلسلات الرمضانية التي تجتاح المشاهدين في منازلهم كل عام. تدور أحداث “الصياد” حول الرائد “سيف عبدالرحمن” الذي فقد بصره في معركة دموية أثناء قبضه على مجرم سفاح ارتكب عدة جرائم بطريقة واحدة وأطلق عليه اسم “الصياد”. ورغم وفاة الصياد في هذه المعركة إلا أن الجرائم تتوالى بالطريقة نفسها لتحصد رؤوس العديد من رجال الشرطة، الأمر الذي يدفع أجهزة الأمن للاستعانة بالرائد سيف لمعرفة المزيد من المعلومات عن السفاح الملقب بـالصياد. وعلى غير عادة الدراما البوليسية، نشاهد دراما من نوع مختلف حيث يتم الكشف عن مرتكب الجرائم في الحلقة الثانية عشرة وليس الحلقة الأخيرة التي ينتظرها المشاهدون -عادة- بفارغ الصبر. وهنا تأتي جمالية التلقي ومتعة المشاهدة من الرغبة في معرفة أسباب ارتكاب الجرائم بعد أن عرفنا الفاعل، خاصة أن الفاعل يرتكب جرائمه -كما في الدراما الأميركية- وفق خطة مسبقة محكمة، تستهدف أشخاصاً معينين بدافع الانتقام. وبالرغم من أن ذروة الإثارة وعنصر المفاجأة الأكبر يتحققان لحظة اكتشاف المشاهد أن الصياد هو نفسه الرائد الكفيف سيف عبدالرحمن، الذي فقد زوجته وطفلته الصغيرة بأيدي زملائه من رجال الشرطة الذين كانوا ينتمون إلى خلية سرية تتاجر بالسلاح، ورفض الاستمرار معهم، إلا أن هذه اللحظة المحورية هي النقطة المفصلية في العمل التي يمكن أن ندلف من خلالها لرسالة معرفية أبعد من مجرد البناء البوليسي التشويقي الذي تمت صياغته بدقة نجحت في إشباع رغبات المشاهد المتعطش إلى أجواء الغموض والإثارة. فبالرجوع إلى بعض أسماء الشخصيات المحورية في المسلسل يمكننا أن نصل إلى شيء من المغزى والدلالة التي تحملها أحداث المسلسل. فالرائد سيف عبدالرحمن يشير اسمه المكون من مقطعين: “سيف” إلى قيامه بدور السفاح الجاني الذي يقتص من ضحاياه عن طريق الذبح بسكين حادة، وهي الطريقة نفسها التي قتلت بها زوجته وطفلته الصغيرة، و”عبدالرحمن” في إشارة إلى عدالة قضيته، وأنه يقوم بارتكاب كل هذه الجرائم بدافع تحقيق العدالة التي عجز القانون عن تحقيقها، يقوم بذلك وهو يثق في عدالة السماء وفي رحمة الله التي تسع كل شيء وهو ما سيتم التعبير عنه في مشهد النهاية المؤثر،عندما يلقى حتفه برصاص رجال الشرطة بينما يرسل ابتسامة رضاء للسماء، وتتداعى على ذاكرته الذاهبة في التلاشي صورة زوجته وابنته اللتين سيلقاهما في عالم آخر بدا أكثر عدلاً ورحمة. اسم سلمى زوجة سيف يشير إلى حالة السلام التي كانت تعيشها داخل أسرتها الصغيرة السعيدة، وهو الاسم نفسه الذي عمد سيف أو الصياد إلى حفره بسكينه الحادة على ذراع ضحاياه من رجال الشرطة موضوع انتقامه. وكذلك اسم “طارق” الضابط الشاب الذي آل على نفسه أن يتولى مهمة القبض على الصياد الحقيقي، يتناسب مع كونه أول من أعاد طرق موضوع الصياد مجدداً بعد أن لقي حتفه على يد سيف وأغلق ملفه إلى الأبد. ولا يمكن إغفال تيمة “البطل الكفيف” التي لعبت دوراً هاماً في تحقيق قدر كبير من الإثارة والتشويق لأحداث المسلسل، كما أنها تعتبر زاوية مهمة للنظر في قراءة الأحداث فلسفياً وجمالياً، فالرائد الكفيف الذي لا يرى أمامه ولا يستطيع التحرك دون تلمس الطريق بعصاه، هو نفسه الذي ينير طريق رجال الأمن الضبابي المبهم، في ظل توالي الجرائم بصورة مرعبة يلفها الغموض. ويستمد الموقف الدرامي مصداقيته من ضبابية المشهد العام الذي يطوق الشخصيات كلها بما فيها الرائد سيف، وهنا يتميز سيف عن باقي أفراد الجهاز الأمني لأنه يمتلك خبرة سابقة بجرائم الصياد، وهو الوحيد الذي التقى به وجهاً لوجه. فعندما تطفأ الأنوار يصير الكفيف هو الأكثر قدرة على الرؤية من المبصرين، لأنه اعتاد الظلام، وهو المعنى الذي مهد به المسلسل للأحداث في حلقاته الأولى، عندما اقتحم شخص مجهول شقة سيف وكاد يقتله، لولا أن سيف استطاع أن يصل إلى زر الكهرباء ويطفئ الأنوار، وهنا استطاع أن يمسك بالمقتحم ويقتله، لأن لديه خبرة (معرفة) سابقة بتفاصيل شقته. ومع تصاعد الأحداث واكتشاف الضابط طارق لخدعة سيف وأنه لم يفقد بصره وأنه هو نفسه الصياد الذي يقوم بارتكاب الجرائم نكتشف معه أن الماضي لم يعد تراثاً عاماً يملكه الجميع ويتفقون على عناصره الثابتة، لكنه هنا يصير تراثاً شخصياً خاصاً يمتلكه سيف وحده، ويمنح نفسه الحق في تعديله بالحذف والإضافة وفقاً لمصالحه الخاصة ورغبته المحمومة في الانتقام. كما نكتشف أن الحاضر نفسه ليس حقيقة ثابتة يمكن أن يتفق عليها الجميع ويسلكون على النحو الذي يتسق مع هذا الثبات، ذلك أن المحامية التي كانت تتعاون مع سيف قد ساعدت في تغيير الحقائق التي اكتشفها الضابط طارق وجعلت -بذلك- كل النتائج الصحيحة التي توصل إليها فارغة من المعنى والمضمون. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الأحداث التالية، وبعد أن بدأ المشاهد في فهم أصول اللعبة وصار كل شيء “على المكشوف”، أصبح جدل التكشف والتحجب هو السمة المهيمنة على الأحداث. فالشخصيات ترى أشياء وتخفى عنها أشياء، وكذلك المشاهد الذي يعرف ما لا تعرفه الشخصيات ويتوقع مصائرها في توليفة جديدة على الدراما البوليسية التقليدية التي كانت تعتمد كثيراً على تضليل المشاهد وإخفاء الحقيقة عنه حتى اللحظات الأخيرة من العمل. فالمشاهد يرى سيف الكفيف المبصر وهو يقف وجهاً لوجه أمام الضابط طارق الذي جاء لتفتيش شقته في الخفاء دون أن يعلم أن سيف يراه ويتصرف أمامه باعتباره كفيفاً في الظاهر، وكأنه لا يراه، وهي المفارقة التي يعلمها المشاهد ويستمتع بمراقبتها في أجواء ساخنة مليئة بالصراع والتشويق. يواصل الشريف في هذا المسلسل اختراق حقول الألغام، والكشف عن الوجه الخفي للسلطة في كافة صورها، ليقدم صورة بانورامية دقيقة لما يدور خلف الكواليس. فكما شاهدنا السلطة القضائية (القانونية) متمثلة في مكاتب المحامين الكبار في مسلسل “رقم مجهول”، والسلطة التنفيذية متمثلة في حياة مرشحي الرئاسة في مسلسل “اسم مؤقت”، نشاهد هنا السلطة التنفيذية في صورتها البوليسية متمثلة في أجهزة الأمن. وفي كل الأحوال يواصل عمرو سمير عاطف التأكيد على وجود قوى عليا هي التي تهيمن على الأحداث وتتحكم في مصائر الشخصيات، وهي ليست قوى ميتافيزيقية قدرية، إنما هي قوة فيزيقية لها حضور مادي ملموس، لأنها في النهاية قوى بشرية تملك النفوذ والمال، وتتصرف وفق خطة محكمة معدة سلفاً، ولأنها بشرية، وليست إلهية، فهي قوى غاشمة لا تعرف الرحمة، ومن هنا يأتي شلال الدم الذي يغرق الأحداث ويخلف وراءه المزيد من الضحايا والجثث، بسبب أو دون سبب.. إنها دوامة كبرى، وحلقة مغلقة لا سبيل إلى الفكاك منها. إنها دراما ذات طابع أسطوري معاصر، قد تكون إسقاطاً على الواقع، وقد تكون إسقاطاً على الوجود برمته. فمستويات القراءة تسمح بالعديد من التفسيرات. وأخيراً لا يجد صناع العمل صعوبة في اختراق المحظور وتعرية الأنظمة السلطوية المهيمنة طالما يعملون تحت مظلة التنويه الشهير الذي يتصدر تتر المقدمة، مشيراً إلى أن الأحداث لا تمت إلى الواقع بصلة، وأن أي تشابه بين شخصيات العمل وبين شخصيات موجودة في الواقع إنما يرجع إلى خيال المؤلف. لعبة إبليس، سحر الأكاذيب وحواة الإعلام صراع مثير بين السحر والإعلام صراع مثير بين السحر والإعلام في مسلسل “لعبة إبليس” يخترق يوسف الشريف منطقة أخرى محظورة من مناطق السلطة المهيمنة على كافة قطاعات الحياة والمجتمع، وهي المؤسسة الإعلامية، من خلال سيناريو وحوار أحمد سمير عاطف المحبوك بمهارة، وإخراج أحمد جلال وشريف اسماعيل، المبهر والمثير، خاصة في الشق المتعلق بعروض الألعاب السحرية على المسرح. ولأن فريق العمل هو نفسه صاحب الأعمال السابقة الناجحة، فإنه يواصل في هذا المسلسل نجاحاته من خلال الأسلوب نفسه والرؤية البوليسية الخاصة ذاتها، القادرة على كشف المستور وتعرية الأدوات الخفية للسلطة التي تتحكم في مصائر البشر دون أن يشعر أحد. تدور أحداث المسلسل حول أخوين غير شقيقين، “أدهم” و”سليم”، الأول فقير يعيش حياة الصعلكة ويتعلم أسرار الحيل السحرية التي يقوم بها الحواة في السيرك، ويطمح في تقديم عروض عالمية أكثر إبهاراً لتحقيق النجاح والمال والشهرة. والأخير صاحب قناة تلفزيونية شهيرة، يعيش حياة الأضواء والشهرة وينعم بالثراء الذي تركه له والده، ولا يعترف بأخيه أدهم طمعاً في الانفراد بالقناة والثروة. ويلعب يوسف الشريف الدورين ببراعة بحيث ينجح في إقناع المشاهد بأنه أمام شخصيتين مختلفتين فعلاً وليس شخصاً واحداً يؤدي الدورين. وتقوم القصة التي كتبتها إنجي علاء على فكرة ذكية تضع المؤسسة الإعلامية –بكل مثالبها وتناقضاتها وأكاذيبها المصطنعة– في ضوء باهر لا يمكن أن تخطئه عين المشاهد العادي. والفكرة رغم بساطتها إلا أنها شديدة العمق، حيث يتم التقاطع بين ما هو إعلامي وما هو لعبي وسحري، على النحو الذي يجعل المشاهد طوال الوقت في حالة ترقب وانبهار بما يقدمه الساحر على المسرح من ناحية، وما يقدمه الإعلام الموجّه على شاشة التليفزيون من ناحية اخرى. فالإعلام نوع من الألعاب السحرية، والسحر نوع من الإعلام، وكلاهما يخضع لنفس قانون اللعب والخداع، وإظهار عكس الباطن. الحقيقة مصطنعة ونسبية، وتأتي على النحو الذي يريده صانعوها وقدرتهم على تسريبها للمشاهد بخفة يد آثمة ومدربة. والمعنى النهائي للمسلسل يلخصه “سليم” في المشاهد الأولى من الحلقة الأولى عندما يكشف عن أسرار مهنة الإعلام بكل صراحة ووضوح، باعتبارها أداة جبارة لصنع الأكاذيب للتأثير في الناس، إلا أن أهم ما يكشف عنه في هذا الاستهلال البوليسي الفريد هو دور المشاهد في صنع هذه الأكاديب. فالمشاهد متورط مع الإعلام في التواطؤ معه من خلال عدم تجاوبه إلا مع الحدث المزيف لا الحقيقي، الحدث الذي يسهم في تخديره ومنحه أكبر قدر من اللذة دون التورط في المواجهة أو تحمل مسؤولية التغيير. إن هدف أي قناة هو تحقيق أكبر قدر من المشاهدة، ومن ثم جلب المزيد من الإعلانات التي تترجم في النهاية إلى حصيلة من الأموال الطائلة التي تصب في جيب صاحب القناة الرأسمالي. وهو نفس منطق عروض الألعاب السحرية التي تعتمد على التحايل والكذب من أجل تحقيق المتعة للمشاهد وحصد المزيد من الأموال. والشيء المثير في هذا السياق ليس فقط مجرد التشابه الظاهري بين الألعاب السحرية والإعلام، لكن الطريقة التي يؤدى بها كل واحد منهما، وهي في الحقيقة الطريقة نفسها. فإذا كان الساحر يصرف نظر المشاهدين في اتجاه بينما يمرر خدعته من اتجاه آخر، كأن يجعلك تشدد التركيز على يده اليسرى في حين يقوم هو بإخفاء شيء أو إظهاره من خلال يده اليمنى، وهكذا.. فإن الإعلام –من خلال أدواته الخاصة– يعمل طوال الوقت على تشتيت انتباهك بحيث تضع كل تركيزك على العالم المصنوع الذي يقدمه لك بمهارة، في حين يتم التعتيم على العالم الحقيقي الذي يؤثر في مصيرك وفي وجودك على الحقيقة، وتمرير كل ما يمكن أن يستفز فيك روح المقاومة والرغبة في التمرد على الأوضاع التي تمضي في غير صالحك. وعلى غرار السردية الدينية ذات الطابع الأسطوري في قصة قابيل وهابيل، يقتل أدهم أخاه سليم، ويستولي على كل شيء بما في ذلك الزوجة والقناة. ويدير القناة بطريقته الخاصة الصادمة، وسط دهشة الجميع. وهنا ينجح أدهم في دمج السحر بالإعلام، حقيقة لا مجازاً، عندما يجعل برنامجه السحري هو الفقرة الأساسية في القناة، فيحقق بذلك نجاحاً مادياً وفنياً عالياً يجعله الرجل الأول والأوحد المسيطر على كل شيء في ظل صراع خفي بينه وبين المحيطين به من أنصار سليم. ولا يتركنا أحمد سمير عاطف لننعم بالصراع المثير بين السحر والإعلام، الذي يحقق للمشاهد قمة المتعة، حتى يفاجئنا –كعادته– بأن سليما ما زال سليماً وعلى قيد الحياة لتعود دفة الصراع مرة أخرى بين سليم وأدهم، ولكن هذه المرة “على المكشوف”، حيث يعمل كل منهما على تعرية الآخر، وكشف أوراق اللعبة التي يخدع بها الناس ويحقق لنفسه المجد والمال والشهرة.. سليم يُعد برنامجاً منافساً يفضح فيه حيل أدهم، وأدهم يفضح ألاعيب الإعلام من واقع نجاحه في الدخول إلى عالمهم والانخراط معهم في اللعبة، وفي كلتا الحالتين نحن، في الحقيقة، أما شخص الشريف الفنان الذي لعب الدورين، وعمل على فضح العالمين: السحري والإعلامي، أمام جمهور المسلسل الحقيقي، وليس جمهور العمل التخييلي.

مشاركة :