أيام الشباب تلتهمها المقاهي في ظل البطالة

  • 6/17/2018
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

تونس – يثير مشهد المقاهي الشعبية في المدن والأحياء العربية مثل العاصمة تونس الدهشة نظرا لاكتظاظها الدائم بالزبائن، النسبة الأكبر من هؤلاء هم شباب يترددون عليها طيلة اليوم وخلال أوقات العمل، الأمر الذي يكشف أن غالبية روادها عاطلون عن العمل وليست لديهم فضاءات غير المقهى قادرة على استيعابهم وجذبهم باعتبار أوضاعهم المعيشية الصعبة. في غياب المؤسسات الثقافية التي تستوعبُ الشباب، تنعدمُ الخيارات ويصبح المقهى الحل الوحيد المتوفر، ثم يتحولُ تاليا إلى مفصل من دائرة يوم الشاب المفرغة المتكررة: البيت والمقهى والتسكع. هذا الثلاثي تدور حوله حياة علي الذي يستيقظ صباح كل يوم متكاسلا يحاول الحصول على بضعة ملاليم من أحد أفراد أسرته، لينطلق فورا إلى مقهى الحي. يجلس هناك وينتظر أصدقاءه ليمضوا ساعة أو اثنتين يتحدثون فيها عن كل ما يتبادر لأذهانهم ويشتكي كل منهم همومه ومشاعره باليأس بسبب البطالة والفقر. يقول علي في حديثه لـ”العرب” إنه ليست لديه بدائل “أين أذهب إذن؟ أملّ البقاء في البيت أو الشارع وأحاول أن أتجنب التشنج والمشاجرات مع أفراد أسرتي أو مع الناس بسبب وضعي السيء، وأمضي اليوم خارج المنزل وأشعر بالملل من نفس المقهى ويحرجني طول الوقت الذي أمضيته فيه وإن كان عندي المال أغيره بآخر… وهكذا يمر الوقت والأيام”. ويضيف الشاب العشريني “المقاهي هي الحل الوحيد بالنسبة لي ولأمثالي من الشباب العاطل والفقير والمنسي من صناع القرار والحكومات، ليست هناك فضاءات أخرى يمكن أن نقصدها لنستثمر فيها الوقت وليست لدينا الإمكانيات المادية للأندية الترفيهية المكلفة”. ويشير علي إلى أنه على وعي بمخاطر الجلوس في المقهى ليوم كامل وهو يعرف أن المقاهي خصوصا في الأحياء الشعبية أصبحت مقصد المنحرفين والمكان الذي تبرم فيه العديد من الصفقات المشبوهة “لكن ليست لدي خيارات بسبب عجزي عن إيجاد عمل وبسبب الفقر.. فالجلوس في المقهى لقتل الوقت موت بطيء”. وتيرة حياة علي اليومية تكاد تتطابق مع أوضاع جل الشباب العاطل عن العمل ليس فقط في الأحياء الشعبية التونسية بل في جل الأحياء والمدن العربية، ما جعل مشروع المقهى من أكثر المشاريع الناجحة والمربحة. ويلاحظ عالم الاجتماع الدكتور الطيب الطويلي أن عدد المقاهي في تونس يشهد ارتفاعا لافتا، مشيرا إلى أن هذا النسق التصاعدي والمحموم بدأ منذ سنوات الألفين في مقابل انحسار الفضاءات الثقافية مثل المكتبات العمومية ودور السينما والمسرح… بجانب تراجع الدور الثقافي لدُور الشباب والثقافة في الجمهورية التونسية. ويوضح الطويلي في حديثه لـ”العرب” أن امتلاء المقاهي بالشباب يعود إلى سببين هامين، أولهما أن الشاب يجد في المقهى مكانا لإفراغ شحنات قلقه وتوتره الناجمين عن الفراغ والبطالة عند البعض أو ضغوط الشغل والحياة الأسرية بالنسبة للبعض الآخر. والسبب الثاني هو أن الشاب التونسي لا يجد أمامه فضاءات بديلة عن المقهى للترويح عن نفسه في ظل انعدام الفضاء الثقافي خاصة في الأوساط الريفية أو المدن الداخلية. ويؤكد عالم الاجتماع أن الطفرة في عدد المقاهي وإن كانت تمثل عند البعض مؤشرا سلبيا يدل على ميل الشباب إلى إضاعة الوقت في أشياء تافهة مثل لعب الورق أو الثرثرة، إلا أنها تمثل في الحقيقة متنفسا للشاب التونسي يمكنه أن يعبر فيه عن آرائه في مجموعات، كما أن العديد من المقاهي المختلطة توفر للشاب فرصا للتعارف وتمثل له مسهّلا للتواصل الاجتماعي. ويختم الطويلي “إن وجود المقاهي بأنواعها أفضل بكثير من أن يكون الشارع هو الفضاء البديل في غياب الفضاءات الثقافية الأخرى المفترض أن تكون حاضنة للشباب الباحث عن ملء الفراغ أو عن الترفيه”. معاناة دائمة من الفراغ مفهوم المقهى تغير عما كان عليه في الماضي فبعد أن كان مكانا للالتقاء بين الأصدقاء لوقت محدود للترفيه على النفس والنقاش، وبعد أن كان مكانا تلتقي فيه نخبة المجتمع من مثقفين ورجال سياسة وأدباء وفنانين في حلقات لتبادل المعارف والنقاش حول المشاغل التي تجمعهم، أصبح اليوم مكانا يرتاده على الأغلب العاطلون والمراهقون والطلاب وغيرهم ممن لا يجدون طريقة لملء أوقاتهم. قديما كانت هناك مقاه تعرف بروادها مثل مقهى المحامين ومقهى الأدباء ومقهى الفنانين، بينما مقاهي اليوم مليئة بالشباب العاطل عن العمل لأنها الملجئ الوحيد الذي يساعدهم على الهرب من مشكلاتهم. ويرى الباحث في علم الاجتماع طارق بالحاج محمد أن “المقاهي في تونس كانت في ما مضى فضاء للالتقاء وتبادل الأخبار والخبرات وكان فيها نوع من التخصص؛ فهناك مقاهي السوق للتجار، ومقاه للمثقفين ومقاه للسياسيين ومقاه شبابية ومقاه للمتقاعدين… حيث تجد كل شريحة ضالتها فيها وتلتقي بمن يشبهها في الوضعية والاهتمامات، إنه نوع من التخصص والتقسيم غير المعلن لكنه موجود في المجتمع ومتفق عليه ضمنيا”. وأشار بالحاج في حديثه لـ”العرب” إلى أن المقاهي التونسية كانت تعكس تنوع وثراء المجتمع وتعكس تقسيما معينا للأدوار الاجتماعية، وهي تمثل حاضنة مهنية وثقافية إذ تلعب دورا تعليميا ودورا في الاندماج الاجتماعي وتحصيل الخبرة كل حسب اختصاصه وسنه ومهنته ومستواه الثقافي والاجتماعي. وأضاف “اليوم تراجع هذا النوع من التقسيم والاختصاص وأصبحت قيم السوق والتسويق هي الطاغية على مقاهينا حيث باتت تتشابه من حيث الرواد والخدمات والهندسة المعمارية وتغيب فيها تلك الروح التي كانت تميز بعضها عن بعض”. وأفاد بالحاج بأن أغلب من يرتاد المقاهي الشعبية في تونس اليوم هم الشباب وتحديدا الشباب العاطل عن العمل، وبذلك تحولت تلك المقاهي من عنوان للتفاعل وتبادل الإحساس بالانتماء وتحصيل الخبرة أو المنفعة أو المتعة إلى نوع من الإهدار المنظم للوقت وتلبية الميول الاستهلاكية التي ما فتئت تزداد وتتوسع يوما بعد آخر. وخلص الباحث في علم الاجتماع إلى أن المقاهي تحولت من مكان للالتقاء والتثقيف وبناء الأفكار وتحديد المواقف إلى مرتع للشبكات الإجرامية ومكان يتعلم فيه الشاب السلوكيات المحفوفة بالمخاطر، بعد أن كانت مكانا آمنا ومفيدا للشباب. تغير مكانة ومفهوم المقهى في المجتمعات العربية يحمّل كثيرون مسؤوليته إلى شباب اليوم ويعتبرون أنهم جيل تافه لا ثقافة ولا معارف لديه ليبادلها مع أقرانه في المقاهي، ويرون أنه جيل لا يحمل قضايا ويطرحها للنقاش كما أن شعوره بالانتماء ضعيف. ويرى هؤلاء المنتقدون للشباب العربي أن حيز الفراغ الفكري والثقافي الكبير لديه جعله يحوّل المقهى من منبر للتثقيف والتفاعل إلى فضاء للسوء وأصحابه تخرج منه أفكار هدامة تقود الشباب نحو الانحراف مثلما تنبعث منه روائح السجائر والشيشة الكريهة. إهدار منظم للوقت لا يقتصر الازدحام في المقاهي في البلدان العربية على السهرات الليلية أو أيام العطل بل إنه يستمر طيلة اليوم، وهو ما يثبت أن غالبية روادها العاطلين عن العمل لا يجدون حلولا أمامهم غير اللجوء إلى المقهى للتخلص من أوقاتهم الفارغة في الثرثرة والتدخين والحديث عن مشكلاتهم مع الأصدقاء. ويؤكد خبراء في علم النفس والاجتماع أن امتلاء المقاهي على مدار اليوم بات أمرا مؤرقا للأسر والشباب والمجتمع بأسره، لأن إمضاء ساعات فيها لم يعد مجرد وسيلة للاستراحة والتسلية بل أصبح واحدة من أشهر العادات الاجتماعية المستشرية عند الشباب العربي الذي يعتبرها مكانا للهروب من الملل وللتوقي من الوقوع في مشكلات الشارع أو في خلافات مع أفراد أسرته بسبب عجزه عن المساهمة في تحمل مسؤوليات العائلة. ويقول الشاب جلال بن عمر، موظف في شركة خاصة، إنه “في سنوات البطالة لم يكن ارتياد المقهى خيارا يقع من ضمن خيارات كثيرة، بل لم يكن فعل الارتياد فعلا من جنس الأفعال الإرادية الواعية. كانت كل الظروف، المادية والنفسية والزمنية، متضافرة تدفع العاطل دفعا إلى المقهى، ليتحول الفعل إلى استجابة اضطرارية لانعدام الخيارات”. ويضيف أنه بالنسبة إلى تجربته الخاصة فقد كانت المقاهي “توفرُ أوهاما كثيرة متخفية، فقد تضرب موعدا مع قريب وعدك بفكرة عمل أو اقتراح، وقد تلتقي بزميل يقاسمك الوضع نفسه، وقد تصادف صديقا يقرضك بعض المال تجتاز به أياما قليلة، وقد تذهبُ أيضا مدفوعا بغياب كل هذه الاحتمالات فقط لترتاح من التجوال”. ويؤكد جلال أن المعطى الزمني يتقهقر لدى العاطل عن العمل إلى آخر سلم الأولويات، بل يصبحُ معطى إضافيا للضغط النفسي، ولكن في كل هذا لا حل غير كرسي واقع على رصيف مقهى في شارع رئيسي أو فرعي، والاختيار أيضا ليس متاحا أو واسعا. فالمقهى بالنسبة للعاطل عن العمل لم يكن ترفا، بل كان اضطرارا تواطأت على فرضه كل الظروف الاقتصادية والسياسية والثقافية، أما بالنسبة للقوى المنتجة فإنها تتحولُ إلى وظيفة أخرى ترعاها وتحددها وترسم خياراتها الإمكانيات المادية لكل مرتاد. العديد من الظواهر السوسيولوجية المعقدة تخص الشباب ومن بينها ظاهرة امتلاء المقاهي بهم على مدار اليوم وفي أغلب البلدان العربية تثبت مدى تخلّف تصورات ورؤى الحكومات العربية التي عادة ما تسارع بتشييد أروقة ومؤسسات بديلة عن المقاهي بصفة مستعجلة واعتباطية لا هدف لها سوى إسكات النخب المراهنة على التقدّم بالأذواق العامة للشعوب، بمعنى أن غالبية الحكومات العربية توفّر فضاءات ترفيهية وثقافية منقوصة وليست قادرة على جذب الشباب. ويؤكد الباحث في علم الاجتماع سامي نصر لـ”العرب” أن إدمان المواطن العربي بصفة جنونية على ارتياد المقاهي يكشف بما لا يدع مجالا للشكّ أن الشعوب والحكومات العربية لا تحترم في معظمها قيمة الوقت ولا تعيره أي اهتمام، رغم أنه يعد من أهم المعايير التي يتم الاشتغال والاعتماد عليها في الدراسات العلمية المختصة في قيس مستويات تقدم وتطور الشعوب. ويشير نصر إلى أن العديد من الدراسات السوسيولوجية الحديثة كشفت أن من يحترمون قيمة الوقت في البلدان العربية لا تتجاوز نسبتهم 1 بالمئة. ويرجع تعمّد الشباب العربي قتل الوقت في المقهى إلى العديد من الأسباب الاجتماعية والنفسية متعددة الأبعاد ومن أهمها عدم توفّر مؤسسات تكون قادرة على احتضانه كدور الثقافة أو المسارح . وأشار إلى أن للأوضاع الاجتماعية الصعبة دورا كبيرا في حصر الشباب في خيار واحد لا ثاني له وهو المقهى وذلك بسبب غلاء أسعار فضاءات الترفيه الأخرى، موضحا أنه على الرغم من أن معضلة قتل الوقت متجذرة في الثقافة العربية والإسلامية بصفة عامة، إلا أن لها تداعيات نفسية متعددة. ودعا بن نصر الحكومات العربية إلى وجوب تركيز حلقات نقاش مكثفة لدراسة ظاهرة الفراغ التي تدفع الشباب إلى المقاهي لقتل الوقت والتي نخرت المجتمعات وجعلتها غير قادرة لا على الإبداع ولا على الخلق على شاكلة الدول المتقدّمة التي لا يضيع فيها الشاب أكثر من 15 دقيقة يوميا في المقاهي. إن غياب المؤسسات الثقافية التي يمكن أن تلعب دور البديل للمقهى لدى الشباب اليوم يقدم الوجه الآخر لعجز الحكومات العربية عن احتواء شبابها وتوظيف طاقاته، وهو دليل على غياب الحلول أو التصورات الكفيلة بالتقليل من تفشي البطالة، لا القضاء عليها لأنها حاضرة في كل المجتمعات. وإذا وضعت الحلول والاستراتيجيات التي يحس الشباب العاطل أنها خلاقة أو مفيدة، سيذهبُ إليها ويطرق بابها، وحينها يمكن للمؤسسات الثقافية والرسمية أن تتحول إلى فضاء يستوعب تحويل تلك الأفكار إلى وظائف.

مشاركة :