حضور إيران في بغداد ثابت أول. وكذلك بقاء «التحالف الوطني» الشيعي ثابت أول هو الآخر. بعدهما، إلى حين، ثابت آخر هو تفاهم الضرورة بين طهران وواشنطن في العراق. نجحت الضغوط التي مارسها قاسم سليماني مرة أخرى في إعادة ترتيب البيت الشيعي. لن يسمح للسيد مقتدى الصدر بأن يتصدر المشهد السياسي، وإن تصدر نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة. لن يسمح له بفرض قواعد جديدة للعبة السياسية التي طبعت الحكم في بغداد منذ سقوط نظام صدام حسين، حتى وإن ساهم في حشد التظاهرات المطالبة برفع يد الجمهورية الإسلامية عن القرار العراقي. والولايات المتحدة أيضاً كانت ولا تزال تخشى وقوع بلاد النهرين في فوضى كبيرة أو تظل ساحة حرب مفتوحة. لذلك رضخت بعد انتخابات 2010. ارتضت تجاوز الكتلة التي حلت أولى ذلك العام، ومررت التجديد لنوري المالكي لولاية ثانية. تماماً فعلت مثلها إيران ورضخت لإزاحة رجلها زعيم «دولة القانون» بعد أربع سنوات. راعت رغبة جامحة لدى المرجعية في النجف وفي أوساط القوى السياسية والشعبية التي حملت المالكي مسؤولية الفساد والفوضى وقيام «داعش» خصوصاً. كان ذلك زمن ولاية الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. ولم يختلف الوضع كثيراً مع خلفه، على الأقل أثناء الحرب على الإرهاب؛ فقد واصلت القوات الأميركية قتال «دولة الخلافة» جواً فيما كانت كتائب «الحشد الشعبي» التي رعاها قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» في صلب المواجهة إلى جانب القوات النظامية. الآخرون، الساسة وقادة الكتل الكبيرة، هم المتحولون. أما الناخبون فثابتون أيضاً، لكن وظيفتهم تنتهي كل مرة بعد الاقتراع، وبعد... التظاهرات الشعبية الحاشدة. لذلك لم يكن مشهد السيد الصدر وهو يعلن تحالفه مع هادي العامري قائد «الحشد الشعبي» مفاجئاً. تفاجأ الذين عولوا على تحوله. لم يعتبروا مما حل بالحركة الشعبية الغاضبة قبل ثلاث سنوات. كادت تطيح الحكومة. دفع بجمهوره إليها، قفز إلى مركب الذين يعانون من الفساد والفقر والقمع والظلم وانعدام الخدمات وغياب القضاء المستقل. وانتهت التحركات بلا نتيجة... لكن كثيرين لم ينسوا وإن تناسى كثيرون أن الصدر كان حينها يتزعم كتلة برلمانية وازنة! وأن ثمة وزراء من اختياره وهم تالياً معنيون ومسؤولون كزملائهم الآخرين في حكومة حيدر العبادي. القوى السياسية العلمانية والمنادية بدولة مدنية بعيداً من الأحزاب الدينية، وعلى رأسها الحزب الشيوعي، منحت الصدر مساحة واسعة للتحرك. لم تدرك أنه في النهاية لن يكون بمقدوره الوقوف في وجه «عدويه» الأميركي والإيراني، هذا إذا كان فعلاً لا يختلف كثيراً عن معظم القوى الدينية التي سعت إلى تبديل ثيابها وتغيير شعاراتها بما يتماشى ورغبة الشارع، فلا برامج ولا عقائد ثابتة! لكنها لم تقنع الناس العاديين، لذا كانت نسبة الإقبال على الانتخابات الأخيرة بحدود 44 في المئة، بينما تجاوزت في 2010 ستين في المئة. وإذا قدر للكتل وللخاسرين أخيراً أن يفرضوا إعادة إجراء الاستحقاق، فإن النسبة ستتراجع كثيراً. لكن ما قد تحمله الأيام المقبلة من «مفاجآت»، ما دام أن ديدن الساسة في العراق الحفاظ على منظومة المحاصصة، قد يطوي صفحة الضجيج التي رافقت نتائج الانتخابات. فإذا قيض لسليماني أن ينجز خطوة أخرى بضم المالكي إلى التحالف الجديد بين كتلتي «سائرون» و «الفتح»، فلا حاجة إلى إعادة فرز يدوي. ولا حاجة إلى معركة بين مفوضية الانتخابات والقضاء. وهناك اتصالات قد تثمر بترتيب لقاء بين خصوم «صولة الفرسان». وإذا قضى تفاهم الضرورة بأن يلتحق حيدر العبادي بهذا الركب، تصبح الطريق سالكة أمام تفاهم جميع الكتل الكبيرة على اختيار رئيس للوزراء للبدء بتشكيل حكومة لن تختلف عن سابقاتها في توزيع الحصص والحقائب. ثمة «براغماتية» خاصة في بغداد لم يكن الصدر استثناء بعيداً منها. شعر بأنه قد ينتقل إلى صفوف المعارضة مع تقدم سليماني في تحركه. لم يعد هاجسه الوحيد محاصرة المالكي. العامري التقى السفير الأميركي دوغلاس سيليمان أكثر من مرة، والتقى سفراء آخرين، على رغم أن في صفوف «فتحه» نواباً من «عصائب أهل الحق» المصنفة في اللائحة الأميركية «تنظيماً إرهابياً». ووضع عنواناً براقاً لتحركه بقوله إن ائتلافه «ماضٍ في بناء دولة وطنية منفتحة على كل الدول الصديقة والحليفة للعراق وفق نصوص الدستور». وخشي الصدر أكثر من تصاعد موجة الداعين إلى إعادة الانتخابات برمتها، خصوصاً بعد الحريق المتعمد في مخزن لصناديق الاقتراع في الرصافة ببغداد حيث كانت له المرتبة الأولى لعاصمة خصص لها نحو 71 مقعداً. وكان تلقى رسالة أشد وقعاً هي انفجار أحد مخازن السلاح في «مدينة الصدر» داخل أحد مراكز العبادة التابعة لتياره. وعلا صوته داعياً إلى الوقوف «صفّاً من أجل البناء والإعمار بدل أن نحرق صناديق الاقتراع أو نعيد الانتخابات لمقعد أو اثنين»، ومحذّراً من محاولات بعض الأطراف إشعال حرب أهليّة. في أي حال، إن المشتغلين على ترميم العملية السياسية في العراق، خصوصاً إيران أو الولايات المتحدة، هم أيضاً يعتمدون هذه «البراغماتية الخاصة». تقودهم إلى اعتماد صيغة وسطية تحافظ على قواعد اللعبة القائمة حتى الآن منذ القضاء على نظام البعث، لذلك حاذروا ويحاذرون دفع الصدر إلى المعارضة حيث قدرته على التجييش وتأليب الفقراء والمعترضين على النخب الحاكمة ونظام المحاصصة. وفي المقابل، لا يمكنهم الإقدام على المجازفة بإبعاد الكتلة الكبرى الثانية، أي «الفتح» من «جنة الحكم». كتائب «الحشد الشعبي» ساهمت في هزيمة «داعش»، وهو ما عزز حضورها في الشارع، إضافة إلى سلاحها بالطبع. وهي تشكل ذراعاً أساسية لإيران التي إن ارتضت بطي صفحة المالكي فإنها لن ترضى بتجاهل «الحشد» وتفكيك «التحالف الوطني» عماد نفوذها وحضورها في بغداد. وحتى السفير سيليمان يعرف خطورة دفع «الكتائب» إلى خارج الحكم، لذلك أيسر المخارج وأسلمها أمام طرفي «تفاهم الضرورة» جمع الصدر والعامري في ائتلاف يضمن الحفاظ على قواعد اللعبة، فيتولى أحدهما ضبط الآخر. وإذا كانت هذه الوسطية أو البراغماتية وراء تبدل المشهد السياسي، فإن الأيام المقبلة قد تحمل مزيداً من «المفاجآت». حرص إيران على ترميم «التحالف الوطني» لن يكتمل من دون الالتفات إلى حضور حيدر العبادي، فهو حل ثالثاً في الانتخابات. يبدو نظرياً بعد التحالف الجديد بين كتل «سائرون» و «الفتح» و «الحكمة» أن عودته إلى كرسي الوزارة باتت بعيدة، لكن صورة الكتلة الأكبر قد لا تكتمل من دون «النصر»، بل ربما وجد طابخو الحكومة المقبلة أن أفضل الحلول التجديد للعبادي بدل الرهان على شخصية جديدة قد تحتاج إلى سنتين حتى تتمكن من الإلمام بكل الملفات، وتتمرس على أداء دور نشط ومثمر. في حين أن التجديد لرئيس الحكومة الحالي يوفر نوعاً من الاستمرار، وحداً من التوازن في المواقف السياسية الكبيرة؛ فهو مثلاً حرص على التأكيد مراراً أن العراق يرفض التحول ساحة لصراعات إقليمية ودولية، وراعى مصالح إيران ومعها مصالح الولايات المتحدة، وعلاقته بالصدر والعامري طبيعية. كان الأول ولا يزال يحبذ التجديد له وإن بشروط، فيما الثاني لا يمكن أن يتجاهل أن رئيس الحكومة كان وراء «شرعنة» كتائب «الحشد الشعبي»، على رغم اعتراض بعضهم وتخوف بعض آخر. كما أن ضم العبادي إلى التحالف والتجديد له، يرضيان حزب الدعوة فلا يشعر جمهوره بأنه بات خارج الحكم نهائياً هو الذي تولى هذه المهمة معظم السنوات الأخيرة بعد الغزو الأميركي للعراق. أما ابتعاد الرجل من هذه الصورة الحزبية، فمرده إلى موقفه من خصمه زعيم «دولة القانون». ويرضي المرجعية بالتأكيد أن تشاهد التعاون بين الصدر والعبادي وعمار الحكيم وآخرين يستعدون للحاق بهم... وإن كان شعارها «المجرب لا يجرب»، فكلهم «مجربون»! لا يبقى أمام الكتل الأخرى الأصغر عدداً، إذا توسع ائتلاف الصدر والآخرين، سوى البحث عن موطئ قدم في الحكومة الجديدة، ولا بد إذاً من التحاق معظم هذه الكتل بالائتلاف لتضمن حصتها في «نعيم» الحكم والوزارات في بلد يصنف بين أكثر الدول فساداً؛ فالمحاصصة يفترض ألا تقصي أحداً. أما الكرد فلا يملكون سوى الترحيب بالائتلاف، فهم دائماً حرصوا على التعامل مع «التحالف الوطني» الشيعي، إلى حد بدا أنهما يتقاسمان وحدهما الحكم من دون القوى الأخرى. وإذا كانت الولايات المتحدة منخرطة في ترتيب الكتلة الكبرى، فإن الأحزاب الكردية عموماً، في إربيل كما في السليمانية، لا يمكنها الابتعاد من الموقف الأميركي. وبالتالي لن تكون بعيدة من الموافقة على ما يجمع عليه الائتلاف الجديد، سواء تقررت عودة العبادي إلى كرسي الحكومة أو أسندت هذه لغيره. لا يمكن الكرد أن يغالوا في تحميل العبادي مسؤولية ما آلت إليه أوضاعهم بعد فشل الاستفتاء، وما يعتبرون أنهم خسروه في كركوك ومناطق أخرى متنازع عليها. ما حل بهم يتحمل مسؤوليته ساستهم، وكذلك دول الإقليم وحلفاؤهم في واشنطن وغيرها في عواصم الغرب.
مشاركة :