القاهرة - اكتسب محرك البحث الأشهر غوغل ثقة المستخدمين مع مرور السنين، ليس فقط لاستشارته للحصول على معلومة عامة أو إجراء بحث أكاديمي، بل تجاوزت الثقة فيه كل ذلك ليصبح مستأمنا على حياة الأفراد وصحتهم، فمن يعاني ألما عارضا في رأسه أو توعكا في معدته أو ظهور طفح جلدي مفاجئ، يهرع إلى كتابة تلك الأعراض في خانة البحث ولا يطول انتظاره لحظات حتى تظهر له التشخيصات المحتملة من “الدكتور غوغل”. وأصبح العرب أيضا أمام معضلة الاعتماد على المشورة الطبية من الإنترنت بعد أن ظهرت العشرات من التطبيقات العربية على الجوال، أبرزها “صحتك” و”معلومات طبية يومية”، بغرض تقديم خدمة متكاملة لتشخيص المرض وتقديم الدواء المناسب وهو ما يعدّ أزمة كبيرة قد تتسبب في تقديم العلاج الخطأ وسوء استخدام الأدوية. وبحسب بيانات أصدرتها منظمة كونسيمر ريبورت “سي آر” الأميركية غير الربحية، العام الماضي، فإن 65 بالمئة من الأميركيين، بشكل عام، اعتادوا استخدام الإنترنت للبحث عن تشخيص لأعراض مرضية ظهرت عليهم أو على معارفهم، هذا فضلا عن أولئك الذين يستخدمون المواقع الإلكترونية المخصّصة لاستشارات الأونلاين ومواقع شركات التأمين الصحي. ويعدّ أحد أهم الأسباب التي تدفع الإنسان إلى استشارة غوغل في مشاكله الصحية، أنه وسيلة أرخص وأسرع لقتل الفضول لدى المريض، ذلك الفضول الذي يتحوّل في أحيان كثيرة إلى قلق متصاعد وتوتر نفسي متزايد يظنه المريض لا يهدأ إلا بظهور تفسير لما يمر به من اضطراب. لكن السؤال هنا، هل حقًا يهدأ قلق المريض بهذه الطريقة؟ يشكل تطوّع أطباء في بعض الدول العربية، للإجابة عن استفسارات المرضى عبر صفحاتهم الشخصية بمواقع التواصل الاجتماعي، خطر التشخيص الخاطئ، كما أن البحث بين تطبيقات ومواقع مخصّصة للغرض أو عبر محرك البحث غوغل يعرّض المرضى إلى مشاكل نفسية ويتهدّد خصوصياتهم بإمكانية تسريب بياناتهم الشخصية لأغراض تجارية تستفيد منها أطراف أخرى وصرّح الدكتور توماس فيرغاس، أخصائي علم النفس السريري في جامعة بايلور الأميركية، لمجلة “ومن هيلث” بأنه من طبيعة الإنسان البحث عن حقيقة التهديدات التي تواجهه، وتشير الأبحاث إلى أن نحو ثلث أولئك الذين يبحثون عن أعراض مرضية لديهم يتصاعد قلقهم بعدها بسرعة بل يمكن أن يؤدي ذلك إلى تدهور حالتهم الصحية بسبب هذا القلق. وأجرت شركة مايكروسوفت دراسة كشفت من خلالها عن أن البحث حتى عن الأعراض المرضية الشائعة مثل السعال يمكنه أن يتشابه مع مشاكل صحية بسيطة وأخرى شديدة الخطورة على حد سواء، ما يعني زيادة قلق المريض إلى درجة مخيفة، وهو ما أشارت إليه أخصائية الباطنة ساندرا فريهوفر، إذ تقول إن هناك من المرضى من يزورها ليشتكي من صداع تسببه مشاكل شائعة، متوهما أنه يعاني ورما في المخ. وأدى ذلك إلى ظهور مشكلة نفسية عرّفها العلماء باسم (Cyberchondria)، وهو مصطلح يصف حالة القلق المتزايد جرّاء تشخيص الأعراض المرضية عن طريق الإنترنت، ما يجعل المريض في حالة هلع من أمراض لا توجد إلا في خياله، وتتفاوت سرعة ظهور هذه الحالة من شخص إلى آخر، لكنها في النهاية تظهر بنفس الطريقة ونفس الأسباب. ويزيد من خطورة المشكلة أن نسبة قليلة ممن يلجأون إلى غوغل لتشخيص أمراضهم يذهبون لزيارة الطبيب، لذلك نجد أن البحث عن أعراض المرض عبر غوغل وتجاهل زيارة الطبيب خوفا من اكتشاف التشخيص الحقيقي الذي قد يكون خطيرا، وله جانبان سلبيان، أولا في حال عدم وجود مشكلة صحية خطيرة بالفعل فإن المريض سيظل يعاني من الوهم بإثابته بمرض عضال، وثانيا في حالة إن كان المريض يعاني بالفعل من مرض خطير، فإن الذهاب إلى الطبيب في وقت مبكر ربما يفيد في تدارك الأمر قبل فوات الأوان وتفاقم المشكلة، لنجد أن الاكتفاء بمطالعة الأعراض على صفحات الإنترنت يحرم المريض من تلك الفرصة لإنقاذ حياته، فالاحتمال الوحيد لأن يصبح مرض Cyberchondria له فائدة هي أن يؤدي القلق الناجم عنه إلى زيارة الطبيب. وقال الطبيب مايكل كورتيس، من جامعة هيوستن، إن القصص الشخصية لأصحاب الأمراض الخطيرة التي يسمع بها المريض من دائرة معارفه أو من صفحات مواقع التواصل الاجتماعي تلعب دورا سلبيا في هذا الصدد، ويبدأ الهاجس لدى المريض بسؤال نفسه “ماذا لو أصابني نفس المرض؟” وعند ظهور أعراض تتشابه مع تلك الأعراض التي سمع بها لدى مريض ما، تصبح ظنونه شبه مؤكدة بشكل تلقائي، حتى وإن لم يكن لها أساس منطقي. لا يقتصر الأمر على المخاطر النفسية والصحية التي قد يتعرّض لها من يعتمد على الإنترنت لتشخيص مشكلاته الصحية، إذ أفادت منظمة “سي آر” بأن عمليات البحث من هذا النوع تنطوي على مخاطر متعلقة بأمن المعلومات أيضًا، وذلك لأن محرّكات البحث المختلفة تشارك البيانات الصحية الشخصية للمريض مع طرف ثالث يطلع على نتائج البحث ولا يلقي له المستخدم بالا، ويكون ذلك لأغراض تجارية أي لاستهداف الشريحة المطلوبة بإعلانات المنتجات المراد تسويقها، ما يعني تعريض خصوصية وأمن المستخدم للخطر. وحدّدت المنظمة الطرف الثالث المتدخّل في عملية بحث المستخدم عن أعراض مرضه، فإما أن تكون مواقع التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك وتويتر، التي تتبع نشاط المستخدم على الإنترنت لإظهار الإعلانات المناسبة للشخص المناسب، وإما أن يكون هذا الطرف الثالث شركات الإعلانات وشركات تحليل بيانات الإنترنت التي لم يسمع بها المستخدم أبدًا. وظهرت في الآونة الأخيرة تطبيقات للهواتف الذكية مثل تطبيق “فيزيتا” في مصر والأردن ولبنان، والتي تسهل خدمة العثور على الطبيب المناسب في نطاق سكن المستخدم، في المقابل يحصل التطبيق على سجل لتاريخ زيارات المريض للأطباء بتخصصاتهم المختلفة، بالإضافة إلى ملف يحتوي معلومات المريض فيه اسمه وتاريخ ميلاده وهاتفه وبريده الإلكتروني. ومع وجود مثل هذه التطبيقات أصبحت دائرة خطورة تسريب البيانات الطبية مغلقة على جميع مستخدمي الإنترنت، سواء من لا يرغبون في زيارة الطبيب بالبحث عن أعراض أمراضهم عبر غوغل، أو أولئك الذين يرغبون في إيجاد طبيب متميز متخصص في المشكلة التي يعانون منها. وأجرى تيم لايبيرت، باحث دكتوراه بقسم علوم الكمبيوتر بجامعة أوكسفورد، دراسة عام 2015، كشف فيها أن هناك أكثر من 80 ألف صفحة إنترنت تحتوي معلومات عن أمراض شائعة، وجد أن 90 بالمئة منها تم الحصول عليها من خلال الشركات التي تمثل “الطرف الثالث” المتدخل في عملية البحث بين المستخدم وكمبيوتره، وذكر أمثلة على هذه الشركات ومنها شركة أدوب وأمازون وفيسبوك وبنتريست وغيرها الكثير، الهدف الأساسي لها جميعًا الاستفادة من تلك البيانات لأغراض إعلانية. واستطلعت منظمة “سي آر” آراء بعض مستخدمي الإنترنت، ووجدت أن 45 بالمئة منهم أكدوا أن ثمة إعلانات تظهر لهم ذات علاقة وثيقة بما يعانونه من مشكلات صحية قاموا بالبحث عن أعراضها عبر الإنترنت، ما قد يضع المستخدم في حرج عندما يستخدم كمبيوترا مشتركا مع آخرين في العمل أو المنزل وتظهر إعلانات عن مشاكل صحية فضل عدم الإفصاح عنها لأحد كالأمراض الجنسية وغيرها. وتحتوي المسألة على خطورة أخرى في السياق ذاته، وهي أنه في كثير من الأحيان يمكن لشركات جمع بيانات الإنترنت أن تربط البيانات الصحية للإنسان بمعلوماته الشخصية مثل الاسم والعنوان ورقم الهاتف وغير ذلك من البيانات المتاحة لها على الإنترنت، ما يعطي بعدا آخر للخطورة، خاصة في ظل تطور قدرات القراصنة الإلكترونيين “الهاكرز”، وحدوث نقلة نوعية في عملياتهم. مع انتشار استخدام الإنترنت بين أفراد الطبقة العربية المتوسطة، وجدوا فيه بديلا مناسبا لزيارة الأطباء وقد يتوهم البعض أن البيانات الصحية للشخص غير مفيدة للهاكر الذي يسعى في الأساس للحصول على المال، إلا أن إيفا فيلاسكيز، رئيس منظمة “ايدنتي ثيفت ريسورس سنتر” الأميركية، ترى عكس ذلك، إذ أنه كلما حصل الهاكر على معلومات شخصية أكثر عن ضحيته كلما زادت سهولة مهمته في انتحال صفتها ومن ثم تسهيل عملية السرقة المطلوبة. اسأل مجربا ترتبط في مجتمعاتنا العربية فكرة استخدام غوغل كبديل للطبيب، بموروث ثقافي قديم يعبّر عنه بمثل شعبي مستخدم في بعض الدول العربية يقول “اسأل مجرب ولا تسألش طبيب”، وهي فكرة مغلوطة ربما ظهرت نتيجة اجتماع عدة عوامل، إن كان ضعف الثقافة ومستوى التعليم أحدها، فهي لم تخلُ أيضا من تدني مستويات المعيشة الذي أعجز بعض شرائح المجتمع عن تحمّل تكاليف زيارة الطبيب. ومع انتشار استخدام الإنترنت بين أفراد الطبقة المتوسطة، وجدوا فيه بديلا مناسبا من وجهة نظرهم لزيارة الأطباء، خاصة في حالة الحاجة المتكررة للاستشارات الطبية، كوجود طفل حديث الولادة، يصعب معها دفع رسوم زيارة الطبيب لعدة مرات خلال الشهر الواحد. ويتطوّع الأطباء في بعض الدول العربية، للإجابة على استفسارات المرضى عبر صفحاتهم الشخصية بمواقع التواصل الاجتماعي أو عبر صفحات مخصصة لذلك الغرض، ما قد يشكّل خطر التشخيص الخاطئ لأن المريض يتواصل فقط من خلال المحادثة الكتابية مع الطبيب دون فحص ذاتي، فضلا عن إمكانية قيام بعض المحتالين بانتحال صفة أطباء لتحقيق أغراض مشبوهة. وإن كان اللجوء إلى غوغل للبحث عن تفسير للأعراض المرضية أصبح واقعا تفرضه مستجدات العصر، فيمكن اتباع الخبراء النفسيين والمعلوماتيين لتجنّب الآثار السلبية في هذا الصدد. أفادت دراسة نفسية بأن احتمال اعتقاد الإنسان بإصابته بمرض ما تصبح أقوى عندما يقرأ الأعراض التي يعاني منها مجتمعة في قائمة واحدة، بينما يضعف هذا الاعتقاد كلما وجد بين تلك القائمة أعراضا لم تصبه، لذلك إن كان لا بد من البحث عن أعراض مرض ما فينبغي عدم التركيز فقط على ما لديك من أعراض هذا المرض واقرأ بعناية كل ما يرد في الصفحات التي تزورها كي تحصل على صورة واضحة بقدر الإمكان. وينبغي الوضع في الاعتبار أن إصابتك بعرض يتشابه مع أعراض مرض خطير لا يعني بالضرورة إصابتك به، فهناك آلام مشتركة بين المشاكل الصحية البسيطة وتلك التي تشكّل خطورة على الحياة، صحيح أنه لا ينبغي إهمال الأعراض لكن في الوقت ذاته إهمال الأسوأ دون زيارة الطبيب لن تفيد. أما عن خطورة تسريب البيانات المرتبطة بالبحث عن الأعراض المرضية، يمكن استخدام أدوات حماية للبيانات، مثل تطبيق disconnect الذي يحمي مستخدمه من الشركات التي تتبع أنشطة المستخدمين على الإنترنت، أو المتصفح Tor الذي يجعل مستخدمه مجهول البيانات على الشبكة، فضلا عن إمكانية شبكة VPN التي تحتفظ بسرية البيانات المستخدمة. ويمكن القول إن منح الثقة العمياء لغوغل وتوهّم أنه سيحلّ محلّ الطبيب في يوم من الأيام، يؤدي فقط إلى مشاكل صحية ونفسية بل يزيد الطين بلة بانتهاك خصوصية الإنسان في إحدى أكثر نواحي حياته حساسية وهي صحته التي تؤثر على عمله وعلاقاته ومستقبله.
مشاركة :