الباكستاني محسن حامد يصوّر محنة اللاجئين

  • 6/20/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

منذ رواية «الأصولي المتردّد» (2007)، تمكّن الباكستاني- البريطاني محسن حامد من فرض نفسه في الساحة الأدبية الدولية بتشييده فيها مونولوغاً صاعقاً لشاب باكستاني يعود إلى وطنه من الولايات المتحدة، حيث كان يعيش حياةً أميركية صرفة، قبل أن تمزّق أحداث 11 أيلول 2001 حلمه في الاندماج. رواية استتبعها عام 2013 بأخرى لا تقل أهمية، «كيف تصبح فاحش الثراء في آسيا الصاعدة»، قلّد فيها بسخرية كُتُب التنمية الشخصية من أجل مساءلة ادّعاءات المدافعين عن العولمة، ثم برواية «الخروج غرباً» (2017) التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار «غراسيه» الباريسية، ويروي فيها بأسلوب حكائي آسِر مأساة اللاجئين الذين يجازفون بحياتهم للهروب من واقع أوطانهم القاتل. المدينة التي تدور فيها أحداث الجزء الأول من هذه الرواية تبقى غير مسمّاة، علماً أن الحرب الأهلية التي لن تلبث أن تندلع فيها، والمضايقات وعمليات الشنق التي ستحصل في شوارعها على يد ميليشيات متشدّدة دينياً، تضعها على خارطة شرقنا الأوسط، وتحديداً في سوريا أو العراق. لكن بعدم تسميتها، ينجح حامد في مدّ سرديته فوراً بسحر الحكاية التي يمكن أن تقع أحداثها في أي مكانٍ أو زمان. بطلا الرواية، سعيد وناديا، شابّان أعزبان يعيشان في هذه المدينة وتنطلق قصّة حبّهما حين تتأزّم الأوضاع فيها. ناديا غادرت عائلتها بعد خناقة مع والديها، ونراها تعيش في شقّة وحدها وتتنقّل في المدينة على دراجة نارية مرتديةً قفطاناً أسوَد يغطّيها من الرقبة إلى الرجلين، فقط من أجل إبعاد المتحرّشين المحتملين. سعيد يسكن في منزل والديه ويعمل في وكالة إعلانات. ومع أنه يربّي لحية صغيرة ويؤدّي صلاته في شكلٍ ثابت، لكنه غير متشدِّد دينياً. أما لقاؤه بناديا فيحصل خلال دورة تعليم في التسويق يتابعانها سوية. يوماً بعد يوم، تتحوّل حياة سكّان المدينة إلى جحيمٍ بسبب الانفجارات والمواجهات العسكرية ونقاط التفتيش المتحرّكة. لكن مَن هما الطرفان اللذان يتواجهان في هذه الحرب؟ ومع أيٍّ منهما علينا أن نقف؟ بسرعة يصبح هذان السؤالان تافهان ما أن تتّسع دائرة المعارك، حاصدةً أبرياء كثر، مثل ابن عمّ ناديا الذي يمزّقه انفجار شاحنة مفخّخة، أو والدة سعيد التي تُقتل في سيارتها برصاصة طائشة. ومن دون سخطٍ، يصف حامد انتشار أعمال العنف المختلفة في المدينة، محافظاً على تلك المسافة العيادية لشخصٍ يراقب الحرب من مكانٍ آمن، الأمر الذي يمنع القارئ من الشعور بالشفقة أو الحزن على ضحاياها ويمنحه صورة دقيقة وموضوعية عن طبيعتها. فظيعة، جائرة، مدمِّرة، قاتلة، لعل عيب الحرب الأكبر هو أنها حقيقية. وكما في قصصٍ أخرى، وبلدانٍ أخرى، نراها في القسم الأول من الرواية تتسلّل إلى كل مكان وتغزو الشوارع، مغلقةً في طريقها المؤسسات ومفرِّغةً المتاجر من بضائعها ومجبرةً السكان على ملازمة منازلهم وسدّ نوافذها بمكتبة هنا وبفراشٍ هناك، من أجل الاحتماء من العيارات النارية وشظايا القنابل. ولعيش قصة حبّهما، يتوجّب على ناديا وسعيد أن يختبئا في معظم الوقت. لكن تصاعُد العنف يحوّلهما في النهاية إلى سجناء ويدفعهما إلى التفكير جدّياً بالفرار، خصوصاً وأن ثمّة أبواباً غامضة تنفتح في مدينتهم وتسمح لأبنائها بالعبور إلى أماكن مختلفة من العالم. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الروائي لا يعبأ بتحديد طريقة ظهور هذه الأبواب وطبيعتها. سحرٌ؟ استيهامٌ؟ خرافةٌ علمية؟ ربما الثلاثة معاً. وإذ يمكن هذه الأبواب أن ترمز إلى تواري المسافات الجغرافية مع التكنولوجيات وتقنيات التواصل الجديدة التي يستخدمها بطَليّ الرواية على طول نصّها، إلا أن الباب عموماً يرمز إلى واقع اللاجئ، إلى الشيء الذي لا يمكنه أن يقاوم عبوره. وهذا ما سيفعله سعيد ونادياً في أحد الأيام، قبل أن يتّضح لهما بسرعة أن برّ الأمان الذي كانا يأملان في بلوغه بفرارهم من أحد هذه الأبواب، هو مجرّد وهم، مع وصول لاجئين ومهاجرين كثر مثلهم إلى الأمكنة التي يقصدونها، الواحد تلو الآخر، وتنامي غضب سكان هذه الأمكنة «الأصليين» بسبب ذلك. إذ لن يلبثا أن يخضعا للتهديد والعنف على يد هؤلاء الأخيرين وحكوماتهم، في جزيرة ميكونوس اليونانية أولاً، ثم في لندن حيث تحاصر قوات الأمن مخيّمات اللاجئين وتزنّرها بالأسلاك الشائكة وتشيّد جدراناً حولها، قاطعةً الماء والكهرباء عنها. وفقط حين تقتنع السلطات البريطانية بعدم جدوى هذه الإجراءات، توزّع اللاجئين على مخيّمات عملٍ يختبر سعيد وناديا الحياة في واحد منها، قبل أن يقرّرا الفرار إلى كاليفورنيا حيث تنتظرهم الحياة نفسها في مخيَّم مشابه. مخيّمات يتبيّن من طريقة وصفها الواقعية أنها لا تختلف كثيراً عن معسكرات الأنظمة التوتاليتارية، حيث يخدّر العمل المتواصل الفكرَ والأملَ وحتى مشاعر الحب، وتتعب الأجساد والعقول خلاله إلى حد لا يعود أصحابها يرغبون سوى بالاستغراق في النوم. باختصار، يقول حامد لنا في «الخروج غرباً» إن الجنوب لا يفقد وحده بوصلة الشمال حين يلتقي به، بل الشمال أيضاً يفقد بوصلته الخاصة. وفي هذا السياق، يسيّر الكاتب سؤالين ملحّين على طول نصّه من دون أن يطرحهما مباشرةً: كيف نشيّد عالماً واحداً بلا حدود؟ وهل يمكن أن تتلاشى التحفّظات وأعمال العنف والطائفية لصالح بشرية واحدة ومسالمة؟ سؤالان يجعلاننا نقرأ روايته ليس فقط كسردية ثاقبة وبصيرة لزمننا الراهن، بل أيضاً كرؤية مستقبلية تصبح الهجرة فيها القاعدة، شئنا ذلك أم أبينا، وفقاً لموقفنا من واقعها الذي يتعذّر تجنّبه. وقد تفاجئ هذه الرؤية في تفاؤلها مَن يعرف أن الكاتب عاش في باكستان وبريطانيا وأميركا، وشاهد هذه الدول تخون مثال حسن الضيافة الذي ترفعه. لكن قوة روايته تكمن في هذه النقطة بالذات، أي في تفاؤل صاحبها على رغم كل ما يسرده فيها. تفاؤل لا سذاجة فيه ولا هو من باب التمنّي، بل يقوم على اختبار حامد الهجرة بنفسه واقتناعه بـ «أننا جميعاً مهاجرون أو أبناء مهاجرين»، كما يقول على لسان واحدة من شخصياته. وهو ما يثبته بُطُرُقٍ مختلفة في روايته، مبيّناً أيضاً، عبر مآل قصة بطلَيه أو عبر قصص قصيرة جداً تقطع سرديتها من حين إلى حين، أن الاختلاط والتهجين وعدٌ بعالمٍ أفضل. وباستثماره بمهارة لافتة عدة قوانين تعود إلى أدب الأطفال لسرد قصّته، يثبت حامد أيضاً أن أي موضوع ساخن تمكن معالجته بطريقة شعرية ساحرة. وهكذا نتلقى روايته المعاصِرة واللازمنية في آنٍ، مثل قصيدة أو حكاية للأطفال تحملها كتابة يقظة وملتهبة، وتُنشَد الكلمات الصائبة فيها بشعرية، وأحياناً بطرافة قارصة، معبِّرةً بأفضل طريقة ممكنة عن اضطرابات عصرنا الكبرى.

مشاركة :