انحسر عدد الجائعين في أصقاع المعمورة في العقود الماضية من بليون نسمة قبل 25 عاماً إلى 777 مليون جائع في 2016، في وقت عدد سكان العالم يتزايد. وهذا خبر سعيد. والفقر المدقع والجوع الحاد انحسرا من 90 في المئة قبل مئتي عام إلى حوالى 10 في المئة اليوم. ولكن، وللمرة الأولى منذ وقت طويل، عاد الجوع وسوء التغذية الى الارتفاع، وزادت أعداد الجائعين في عام واحد من 777 مليون نسمة إلى 815 مليون جائع. وتعاظم كذلك عدد حالات الجوع المستشري الناجمة عن النزاعات والهجرات القسرية، وارتفع العدد هذا من 80 إلى 124 مليون نسمة في سنة واحدة. ولكن، ما وراء الزيادة هذه؟ لا ريب أن ثمة حصة للتغير المناخي في هذه الزيادة، ولكن حصة الأسد في المجاعة تعود إلى أعمال الإنسان، أي الى حروب البشر. و60 في المئة من الجوعى في العالم، ومجمل عددهم يبلغ 815 مليوناً، يعيشون في مناطق نزاع. و80 في المئة من موازنة برنامج الغذاء العالمي مخصصة لمناطق الحروب. وأكثر من 50 في المئة من المساعدات الإنسانية الشاملة في 2017 ذهبت إلى 4 دول: سورية، العراق، اليمن وجنوب السودان. وهذه الدول في حال حرب، وهي تستنفد أموال المساعدات كلها على حساب مناطق في أصقاع المعمورة تحتاج حاجة ماسة الى الإغاثة والمساعدة، على غرار دول الساحل الأفريقي. ويقتضي بلوغ المجتمع الدولي (الأمم المتحدة) أهدافه في القضاء على الجوع في 2030، طيّ الحروب وإنهاءها. ولكن ما هو في المتناول فحسب هو القضاء على المجاعات وسوء التغذية الناجمَين عن الفقر وغياب التنمية في 2030. والحق يقال، القضاء على النزاعات مستبعد. ولسان حالي مع المسؤولين: أنتم أمام خيارين: إما تضعون حداً للحروب، أو تمنحوننا مبالغ أكبر لمكافحة المجاعات، ودعم التنمية. وفي ما خلا الدول التي تنهشها الحروب، الجوع مدقع في منطقة الساحل الأفريقي ومحيطها. وأخشى أن يتسلل تنظيم «داعش» في وسط المهاجرين الى الساحل الأفريقي، بعد خسارته في سورية والعراق، من طريق شبكات وثيقة الارتباط بـ «بوكوحرام» أو «القاعدة». فالتنظيمات الإرهابية تنتهج مقاربة استراتيجية في المنطقة هذه: التوسل بالجوع أداة تجنيد في مناطق النزاع والمناطق المتضررة من التغيرات المناخية، وفي الدول الأكثر فقراً. وحلم التنظيمات الإرهابية مفاده النفخ في موجات أكبر من المهاجرين نحو أوروبا والتسلل إلى صفوفهم. والمحرومون من الغذاء هم في حال هشة. ففي كل مرة ترتفع فيها نسبة الجوع، تتجاوز نسبة المهاجرين 1 في المئة إلى 2 في المئة. ولا شك في أن رد المجتمع الدولي على الأزمة هذه أمني، ولكن لا مفر من التنمية المستدامة في القضاء على الجوع. وليس الاكتفاء بتوزيع المساعدات الغذائية حلاً معقولاً. وحيثما يتسنى لنا، يصل عمال الإغاثة وجيوبهم مليئة بمال لا يوزعونه على أصحاب الحاجة، بل يبذلونه على مشاريع إنتاج وسائل العيش. فيقابلون الطحانين، في وقت أول، ثم الفلاحين الذين يوظفون العمال، وهكذا دواليك. ونوزع الغذاء المنتج على يد هؤلاء على الأكثر فقراً، والجوعى. فيشعر الناس بالكرامة حين يملكون مورد عيش وينبعث الأمل في أوصالهم حين يرون أن حاجة أولادهم الى الهجرة انتفت. وحري بالأوروبيين إدراك أن عليهم الاستثمار في التنمية. فالسوريون والأفارقة لا يريدون ترك منازلهم! والمهاجرون لا يستسيغون الانتقال الى أوروبا. وقصدت فرنسا لأتكلم مع القادة الفرنسيين على منطقة الساحل. فحين توفير الأمن الغذائي، يقل عدد المجندين في صفوف المتطرفين، ويتقلص عدد المهاجرين. ولكن في فرنسا الكلام على التعاون في أفريقيا وفير، في وقت الأموال شحيحة. ولا يستخف بتجربة فرنسا التاريخية في الساحل الأفريقي، ولا مناص من مساعدتها في توفير الغذاء والتعليم وتنمية القطاع الخاص. وهي مدعوة إلى إرسال معلمين الى الساحل، وهي منطقة فرنكوفونية. وأنا مقرب من دونالد ترامب، والرئيس الأميركي هو رجل أعمال. وحين يرى واقع الأمور، يتخذ القرار المناسب. لذا، أعلن زيادة المساعدات الغذائية العام الماضي. ولا أوفر علاقاتي بالمسؤولين الأميركين لتفادي تقليص حصة بلادهم من تمويل برنامج الأغذية العالمي. وأسعى مع غيري إلى جعل عمل الأمم المتحدة أكثر نجاعة. والجوع هو اليوم أمضى الأزمات الإنسانية منذ الحرب العالمية الثانية. وحريّ بالإنسانية أن تدرك الواقع هذا وتستيقظ من سباتها، فملايين البشر بطونهم خاوية ويلفظون أنفاسهم. وألم طفل واحد، هو صنو معاناة البشرية كلها. وأزمة الجوع في سورية هينة قياساً على المأساة التي بدأت نذرها تلوح في أفريقيا. وحري بقادة العالم التفاهم والإجماع على سبل طي حروب مثل الحرب في سورية أو اليمن، والاستثمار في تنمية أفريقيا وتطويرها وإلا رجحت كفة المتطرفين ووسعهم إضرام نيران نزاعات جديدة وتوليد موجات هجرة جديدة. * المدير التنفيذي في «برنامج الغذاء العالمي» الأممي، عن «لوموند» 12/6/2018، إعداد منال نحاس
مشاركة :