منذ نعومة أظافري حين تعرفت مطلع العمر على شغف اسمه الكتابة.. وأنا في حالة استنفار كلما حان وقت الكتابة، أو كلما قسا أو رق لحالي إلهام النثر أو الشعر. كانت أصابعي في البدايات لا تزال غضة، وكانت عواطفي لم يكمل تفتح براعمها، ولا استكملت قوة أشواكها. لم أكن قد جربت بعد تلك الجروح الوجدانية السطحية والعميقة التي لا يمكن أن نكبر دون المرور بتجربة طعناتها. ولم تكن كلماتي قد بلغت ولا حتى اقتربت من ذروة تمردها وتمرسها. أما فكري فكان لا يزال يتنقل حيث شاء من الهوى، ولم تتشكل له هوية أو عنوان غير غي الشعر، وشقاء الشك، وشغف البحث.. ومع ذلك كنت أرفض أن يأتيني عبر الصحيفة أو المطبوعة التي يصدف أن أكون ملتزمة معها بكتابة يومية أو أسبوعية أي إيعاز فضلاً عن طلب بكتابة موضوع معين أو الامتناع عن الكتابة في موضوع ما. كما كنت أستشيط غضباً أو أموت كمداً كلما تعرضت لمقص الرقابة بما لا يمكن حقاً التأكد من ضرورتها؛ لأنه ليس إلا اجتهادهم أمام اجتهادي، والفارق الموضوعي الوحيد أن أحداً من أدواته المقص، أما الكاتب فليس له إلا تلك الأداة السلمية، وهي القلم. ولا بد أن معظم رؤساء التحرير الذين عملت معهم يعرفون ذلك عني، ولعل منهم من يتذكره لو قرأ هذه المرافعة. -2- ومن حظ تجربتي المعتقة أنني عملت مع طيف واسع من رؤساء التحرير، فأتعبتهم، وإن أتعبوني بأكثر مما أتعبتهم، بمن فيهم أولئك المستنيرون الذين كانوا يتواطؤون معي ضدي بما كان ينتهي أحياناً بإجراء المنع من الكتابة في تلك المراحل اليافعة. فقد كتبت في مرحلتَي المتوسطة والثانوي بجريدة عكاظ يوم كان رئيس تحريرها أ. عبدالله خياط، وفي البلاد يوم كان رئيس تحريرها عبدالمجيد شبكشي, وفي صحيفة المدينة المنورة يوم كان رئيس تحريرها محمد صلاح الدين – رحمهما الله -، وفي مجلة اليمامة يوم كان رئيس تحريرها الأستاذ محمد بن أحمد الشدي – أمد الله في عمره -. ولم يكن الأمر رغم أن ذلك كان قبل عام 1979م بتلك الأريحية التي يميل لتصورها البعض بنوع من النستالجيا الحنينية. بل إن الأمر في واقعه، ومنذ ذلك الزمان المبكر من عمر جيلي من الكُتاب، لم يخلُ من تلك العلاقة التي عادة لا تسلم من التجاذب بين الإرادات. إرادة رئيس التحرير بما تملي عليه وظيفته من التزامات قد لا تعبّر عن قناعاته، ولكنه ملزم بها طالما قَبِل القيام بمهمة رئاسة التحرير، وإرادة الكاتب التي عادة يصعب عليها الالتزام بسقف الكفاية المفروض. فيكون ما يشبه جدل الأضداد جزءًا من مكونات هذه العلاقة، خاصة في المجتمعات التي قد تعتبر فيها الكلمة المختلفة أو الكلمة الصريحة أو الكلمة النقدية في غياب مفهوم المعارضة السياسية نوعًا من المعارضة، وإن لم تتوافر لها ولا فيها شروط المعارضة أصلاً، ولا تعدو أن تكون مجرد تعبير عن رأي سلمي شفيف. ولكن أيضاً غياب مفهوم كفالة حرية التعبير شرط سلميته في بعض المجتمعات يزيد من تعقيد الموقف. -3- بعد انتقالي إلى المرحلة الجامعية واصلت الكتابة بمجلة اليمامة من مقر دراستي الجامعية بأمريكا، وكان الأستاذ الشدي رغم هدوئه ومحافظته رئيس تحرير متفتحًا، وشيمته الصبر مع حرفي، ومع كل حرف جميل على ما أذكر، ولكن بالمعقول كما كان يقول. فقد كان مما نشر لي وقتها قراءة لكتاب هشام الشرابي (مقدمة لدراسة معضلة التغير في المجتمع العربي)، على تحفظ البعض على الكتاب، وعدم فسحه بالمكتبات السعودية وقتها. كتبت بعدها بالتزام أسبوعي (قطرات في نهر الوطن) بمجلة اقرأ يوم كان رئيس تحريرها د. عبدالله مناع، وكان رئيس تحرير متحرراً من عقدة الرقابة إلا في أضيق نطاق؛ ولذلك فقد تعرضت وعرضته معي لعدد من مواقف المحاسبة التي لا تنسى. أما بعد تخرجي من الجامعة، وعودتي للوطن، فقد التزمت بالكتابة مع رئيس تحرير، كان مثلي للتو قد تخرج من الدراسة بالخارج، إلا أنه كان خريج فرنسا من جامعة السوربون، وكان عائدًا بدرجة الدكتوراه، فكانت الكتابة مع الدكتور فهد العرابي الحارثي تجربة في غاية العنفوان إلا أنها – وربما بسبب وهجها – لم تستمر إلا لوقت قصير جداً، انتهت بعد كتابتي لمقال «في الصيف ضيعتِ البترول» بغيابي عن الكتابة ما يقارب ثلاث سنوات. **** -4- وقد كانت تلك أطول مدة يختفي فيها قلمي عن ساحة الرأي على مدى عمري المعمر في الكتابة إلى أن سخر الله لي رئيس تحرير آخر، كسر جدار الصمت الذي غلف صوتي. ولم يكن ذلك الرئيس المستنير إلا معالي الدكتور عبدالواحد الحميد الذي استكتبني، أو بالأحرى أعادني لنهر الكتابة بعمود يومي على الصفحة الأخيرة من جريدة اليوم (قطرات من قاع الزجاجة). وكانت تلك التجربة – أي تجربة الكتابة بالصحيفة الأولى بالمنطقة الشرقية – من أحلى وأعمق تجارب الكتابة التي مررت بها في صحفنا المحلية حينها. فعدا انحياز د. الحميد لنقابيته ككاتب على وظيفته كرئيس تحرير، وإن لم يكن يتهاون بالطبع، فقد عرفتني التجربة وعرفت علي طيفًا عريضًا من مجتمع هذه المنطقة الغالية الغنية من أرض الوطن، كما أصابتني بشغف لا شفاء منه لبحر تلك المنطقة ولنخلها ولهوائها ولكتّابها وشعرائها، ولكل زميلة وزميل ممن رافقتهم خلال تلك التجربة التي امتدت لما يقارب عشر سنوات، من منتصف الثمانينيات لما بعد منتصف التسعينيات. وقد تخلل تلك الفترة تولي الأستاذ خليل الفزيع لرئاسة التحرير، ولم يكن إلا حفيًّا بالكلمة الصادقة وإن على حسابه حينًا، وحسابها حينًا. ومما كتبت بجريدة اليوم قبل أن أتركها في الفترة الوسط من التسعينيات بإشراف الشاعر عبدالوهاب العريض على ملحقها الثقافي (سيرة ذاتية لتيار جماعي) بالشراكة مع الشاعر علي الدميني. ومن تجارب الكتابة التي لا تنسى عودتي ولكن بكتابة متقطعة، ودون التزام بالانتظام، للكتابة بجريدة عكاظ للمنطقة الغربية. ومع أنه لم يكن لي في تلك التجربة أي احتكاك مباشر أو غير مباشر برئيس تحريرها آنذاك د. هاشم عبده هاشم فقد تعرفت خلال تلك التجربة على شخصية تملك أفقاً واسعاً في الإيمان بحرية الرأي، وبحق الكلمة الحرة في حياة طليقة، وتملك في الوقت نفسه حساً صحفياً ووطنياً مقاوماً ومراوغاً لمضائق تلك الفترة من المرحلة الممتدة بين النصف الثاني للثمانينيات إلى بداية التسعينيات، وهي شخصية عميد الصحافة الأدبية – السياسية إن صح التعبير، وإن لم يستلم على حد علمي منصباً صحفياً بارزاً، وهو الأستاذ مصطفى إدريس، له – بإذن الله – الرحمة والمغفرة. وكان مما كتبته وقتها عمود أدبي بعنوان (الخيال والظل)، وفيه طرحت سلسلة من المقالات في دلالات الحساسية العربية من حرف الحاء/ حب، حرية، حنظلة، حلم.. إلخ. (يتبع) ———————————————————————
مشاركة :