يظل الحدث الأبرز في المعرض الصيفي الذي دأبت على تنظيمه سنويا قاعة “سفر خان” بالقاهرة والذي يتواصل حتى الـ15 من سبتمبر المقبل، تلك النماذج المنتقاة بعناية من تجربة الفنانة المصرية الراحلة إنجي أفلاطون، وهي مجموعة نادرة من مقتنيات القاعة لم يسبق عرضها من قبل، كما تقول شيرويت شافعي، مديرة القاعة. وتضم هذه الأعمال نماذج من الرسوم التي أنجزتها الفنانة خلال فترة اعتقالها، إلى جانب عدد آخر من الأعمال التي عبرت فيها عن الحياة في الريف المصري. ويعد عرض هذه الأعمال فرصة حقيقية لتأمل إبداعات هذه الفنانة الرائدة التي امتزجت تجربتها بالنضال والمعاناة، رغم انتمائها إلى واحدة من الأسر الأرستقراطية المصرية، فرغم هذه النشأة الأرستقراطية إلّا أن أفلاطون تعد من أكثر الفنانين المصريين الذين عبّروا بقوة عن الطبقات المهمشة في المجتمع المصري في منتصف القرن العشرين. وقد تسبب انخراط الفنانة في العمل السياسي إلى تغير وجهتها الفنية وقناعاتها لتصبح واحدة من أبرز رائدات العمل النسوي خلال النصف الأول من القرن العشرين، وكان هذا الدور النضالي البارز الذي لعبته أفلاطون في تاريخ الحركة النسوية المصرية سببا لاختيارها من قبل أحد أهم متاحف الفن الحديث بالولايات المتحدة الأميركية، والمعروف اختصارا باسم “موما” للاحتفاء بها وبأعمالها، كواحدة من أبرز الفنانات المناضلات في تاريخ الحركة الفنية المصرية. يذكر أيضا أنه كان قد وقع الاختيار على أعمال إنجي أفلاطون للعرض ضمن برنامج العروض المتغيرة والمصاحبة لبينالي فينيسيا في دورته الأخيرة. تستضيف قاعة “سفر خان” في العاصمة المصرية القاهرة حتى منتصف سبتمبر المقبل معرضا شاملا لأعمال أبرز الفنانين الذين استضافت القاعة تجاربهم الفنية خلال عام 2017، وهو عرض سنوي شامل تنظمه القاعة في أشهر الصيف من كل عام، أبرز ما فيه لوحات لم يسبق عرضها من قبل للفنانة المصرية الراحلة إنجي أفلاطون. وأضافت أفلاطون إلى المكتبة العربية ثلاثة مؤلفات على درجة كبيرة من الأهمية، كان أولها كتاب بعنوان “ثمانون مليون امرأة معنا” الذي كتب مقدمته عميد الأدب العربي طه حسين، والثاني حمل عنوان “نحن النساء المصريات” وكتب مقدمته عبدالرحمن الرافعي، أما الثالث فكان بعنوان “السلام والجلاء” والذي كتب مقدمته عزيز فهمي. وسرعان ما أثبتت إنجي كفاءة ومقدرة منقطعة النظير في مجال الفن، وفي سنه 1942 شاركت مع جماعة “الفن والحرية” في عدة معارض مع كبار الفنانين في ذاك الزمن، منهم رمسيس يونان وفؤاد كامل ومحمود سعيد، وعرفت هذه الفترة في حياتها بالسوريالية. وتعدّ تجربة السجن التي خاضتها الفنانة في بداية مشوارها واحدة من بين أبرز التجارب في حياتها، إذ تسبب انخراطها في العمل الاجتماعي والسياسي في اعتقالها ضمن من اعتقلوا في فترة الخمسينات بتهمة الانضمام إلى أحد التنظيمات اليسارية. وقضت الراحلة أربع سنوات كاملة في الحبس لم تر أسرتها خلالها سوى مرة واحدة، ورغم مرارة تلك التجربة وقسوتها على نفسها، إلاّ أنها تعدّ من أكثر فتراتها الفنية ازدهارا وإنتاجا وتميزا، فخلال فترة اعتقالها راحت إنجي أفلاطون ترسم بنهم كل ما تقع عليه عيناها، رغم كل المعوقات والتعقيدات والأجواء الصعبة داخل السجن. إنجي أفلاطون تمردت على نشأتها الأرستقراطية وقررت بإرادتها الانغماس وسط الطبقات المهمشةدور نضالي بارز لأفلاطون رسمت إنجي وجوه رفيقاتها في السجن، وعبرت عن معاناتهنّ في العديد من اللوحات، وعلى الرغم من عدم تنوع المثيرات البصرية أمامها داخل أسوار السجن إلاّ أنها حوّلت كلّا من هذه الأشياء البسيطة التي وجدتها حولها إلى عناصر ومفردات غاية في العمق. إنجي أفلاطون تمردت على نشأتها الأرستقراطية وقررت بإرادتها الانغماس وسط الطبقات المهمشةأفلاطون تمردت على نشأتها الأرستقراطية ومن هناك امتلأت لوحات أفلاطون التي أنجزتها حينها، بتلك المفردات القليلة التي أتيحت لها رؤيتها خلف أسوار المعتقل، من القضبان الحديدية إلى أفرع الأشجار المحيطة، إلى أطراف أشرعة المراكب البعيدة البادية من وراء الأسوار، لتخرج في النهاية من المعتقل أكثر صلابة وحماسا، فلم يزدها السجن إلّا إيمانا بمبادئها وقضيتها كما كتبت في مذكراتها، ولتنتقل إلى مرحلة جديدة تميزت بغزارة الإنتاج وتنوعه. ورغم انتماء الفنانة إنجي أفلاطون إلى عائلة أرستقراطية، إلّا أنها تمردت على هذه النشأة وقرّرت بإرادتها الانغماس وسط الطبقات المهمشة، فعاشت جزءا من حياتها متنقلة بين قرى مصر النائية ترسم وتعلم الفتيات القراءة والكتابة، فانعكست حياتها تلك على شريحة كبيرة من أعمالها التي امتلأت بمشاهد الحقول وحياة الفلاحين والبسطاء. وفي الأثناء، حاولت عائلتها إثناءها عن تلك الحياة وإقناعها بالسفر إلى فرنسا لدراسة الفن هناك، لكنها رفضت بقوة وكتبت في مذكراتها، تقول “لم يكن مقبولا ولا معقولا أن أترك مصر وأذهب لعدّة سنوات إلى بلاد الخواجات وأنا أفكر بكل وجداني في عملية تمصير طويلة وقاسية للنفس، أنا التي أتكلم الفرنسية، ضاعت من عمري 18 سنة في المجتمع المغلف بالسلوفان حتى لغتي القومية لا أملكها، فأي بؤس يحسه الإنسان المعقود اللسان، حتى الـ17 كانت لغتي هي الفرنسية، وحين بدأت أحتكّ بالناس لم أستطع حلّ العقدة من لساني.. أمقطوعة أنا من شجرة إذن؟”.
مشاركة :