لها أسلوب خاص في الحياة كما في الكتابة. قلّما تشارك في المناسبات الثقافية، فهي كما تقول لا تُجيد فنّ «التسويق والتسوّق». نالت جائزة العويس على مجمل أعمالها الطافحة بالفقد والتيه والبحث عن معنى في الفوضى العارمة حولها. تكتب بلغة عالية عن الشخصيات والتواريخ. واستمرّت كذلك في رواية «بريد الليل»، أحدث أعمالها، بحيث طرحت قضيّة آنيّة على مستوى عالمي، هي افتقار الإنسان للتواصل مع أخيه الإنسان. هذه المواضيع وغيرها تطرقنا اليها في لقائنا معها، وكان هذا الحوار: > نبدأ من جائزة العويس التي نلتها أخيراً. قلتِ كلمة الفائزين، وعبّرتِ عن ارتباك اللحظة، ماذا تضيفين في هذا الحدث؟ - صحيح، وهي فعلاً جائزة مقنعة وبريئة من الشبهات، وتأخذ في الاعتبار مجمل أعمال الكاتب، ولم يفز بها أي دخيل على الأدب والثقافة بشكل عام. ولا تزال جائزة العويس، إضافة إلى كونها من أهم الجوائز مادياً، من أبرز الجوائز العربية معنوياً وثقافياً. لذلك ذهبت لنيلها بكل فخر، ولم يكن الأمر ملتبساً عليّ، كما من الممكن أن يكون الحال بالنسبة الى جوائز أخرى. كنت أظنّ، لأنني بعيدة من الأجواء الاجتماعية والثقافية العربية، أنني غير معروفة بين هذه الأوساط، كوني لا أملك وسائط تواصل للتعاطي مع الروائيين العرب، على رغم أني أقرأ لهم؛ لكنّ ثمة روائيّين يرسلون لي رواياتهم ونتراسل لمناقشتها. ولمّا تمّ اختياري لنيل الجائزة فرحت كثيراً، وأدركت أنّ أعمالي مقروءة جيداً. فابتعادي الجغرافي يكثّف من ابتعادي من الوسط. > ولكن، ما سبب بعدك من الوسط الثقافي؟ - السبب الأساس أنني، بطبيعتي، وحيدة ومستوحشة، ومَن يقرأ رواياتي لا يستغرب أنّني لست كائناً اجتماعياً، فأنا لا أتردّد على المقاهي وأجلس مع الزملاء ومع النقاد، ليست لي علاقات شخصية معهم، باستثناء مَن أعرفهم منذ زمن، أي قبل أن أسافر وأترك لبنان. لذلك لا أطلب من ناقد أن يكتب عن رواياتي، ولا نتبادل الكتابة عن بعضنا أنا وكاتب آخر. لا أنتمي إلى هذه الأجواء أبداً، وكوني لا أعيش في لبنان، بالتالي لست عرضة لعيشها. > هل تتّهمين الوسط الثقافي بتعميم هذه الأجواء التي يمكن أن تكرّس ما يُعرف «بالشللية»؟ - لا أتهم أحداً، ولكن هذه طبيعتي، أعيش بعيداً، وأعمل كثيراً، ولا وقت لدي لممارسة النشاطات الاجتماعية، أنا شخص يحب وحدته كثيراً، ولا أرى بعداً اجتماعياً ملازماً لمهنة الكتابة. > ماذا كلفتك هذه الوحدة؟ - شخصياً لم تكلّفني سوى ما أنا بغنى عنه، أي أنواع الشهرة والتسويق المستندة إلى نشاط اجتماعي صالوني... يرى بعضهم أنني متعجرفة، ويعتبرون أنني أبتعد منهم بسبب الترجمات العالمية لرواياتي، أو الكتابة عني في الصحف الكبيرة مثلاً، أو حصولي على الجوائز والأوسمة الرفيعة، وكأنّني أهتم بالجانب العالمي أكثر من العربي، وهذا الأمر غير صحيح، ولو كان الأمر كذلك، لاخترت الكتابة باللغة الفرنسية. أنا أعشق اللغة العربية، لكنني أحب الوحدة وهذا كل ما في الأمر. > كيف تقوّمين حال اللغة العربية الآن؟ - مُزرٍ. وصلنا إلى مرحلة من الانحطاط الى درجة أنّ الكاتب لم يعد يشعر أنه بحاجة أن يكتب بلغة عربية سليمة، في حين أنّ على الأدب أن يصحّح مسار اللغة ويجدّدها، كما أنّ اللغة هي ما يمنح النص روحاً. ونادرة هي دور النشر التي تعيد تحرير نص أدبي، والكتّاب أنفسهم يأنفون ذلك ولا يسمحون بـ «مراجعة» ما يكتبون! حقيقة أنّي كلّما صدرت ترجمة لإحدى رواياتي يصيبني اكتئاب، إذ يبقى هاجسي تعديل الترجمة لتقريبها من العربية، لتشبه أكثر الأصل العربي، ولا أكون راضية. ولكن برزت أخيراً لفتات واعية تهتم باللغة العربية، وهذا ضروري، كما أنّ هناك بعض الحركات في البلدان العربية المتمولة، تلتفت الى هذه اللغة، من خلال بعض المؤتمرات التي تبحث في كيفيّة دعم التربية وتعليم اللغة العربية، على أمل أن يستمرّوا في العمل، لأنّ الحال لم يعد مقبولاً، إذ بالإمكان إعادة تحسين كل مظاهر الانحطاط، ما عدا اللغة التي يحتاج إعادة رفع مستواها زمناً طويلاً. > هل عندك رؤية في هذا الإطار؟ - أكيد، أنا وغيري عندنا أفكار، لكنني لا أملك الوسائل، لأنها تحتاج إلى مؤسسات. قارني بين أعمال مؤسسة مثل «لاروس» في ما خصّ اللغة الفرنسيّة، وبين قواميس اللغة العربية التي لم تعد مفرداتها تقنع الباحث أو حتى المستخدم العادي بسبب قِدَمها وكونها ناتجة من مجهود فردي، وهذا خطأ. هنا لا يوجد شيء اسمه مجهود فردي، في المقابل هناك هدر كبير في مؤسسات كبيرة ومهمة. > هل يضعون إمكاناتهم في المكان الخطأ برأيك؟ - يضعون إمكاناتهم حول المكان الصح، لا في صلبه، ومن هنا يجب أن نبدأ. ثمّ هناك استعانة غير مفهومة بالأجانب فيما المطلوب هو حضور أهل الاختصاص العرب وخبراتهم. > ما هي رؤيتك من أجل تطوير هذا المجال؟ - لا أستطيع الادعاء أنّ لدي رؤية متكاملة، لكنني أعرف إمكانات المؤسّسات الكبيرة والجدية، ابتداء من تحديث القواميس، يعني ابتداء من تشكيل فريق عمل كبير يشتغل على القواميس بشكل مستمر ومعاصر، الأمر الذي يُساهِم في تغذية اللغة. عندما استعملت كلمة «نسيانات» في رواية «أهل الهوى»، وهي كلمة غير موجودة في القاموس، ابتكرتها. وهذا الأمر ليس مطلوباً من الكتّاب. دخولنا العصر يعني تحديداً دخول لغتنا العربيّة العصر، وتقديمها وعيا له... لكنّ هذه الحاجة الحيوية لا يمكن أن تتحقق فقط بالمجهودات الفرديّة. > كيف تصنّفين هذا الكم الهائل من الروايات، هل هو واقع صحّي أم يحتاج رقابة؟ - الرقابة غير واردة على أي عمل أدبي. شخصيّاً، أنا غير مطّلعة على ما تسمّينه «الكم الهائل» من الروايات. لكنّني، من حيث المبدأ، لست ضد النتاج الكبير، لأنّ هذا النتاج سيشكّل تراكماً، تنتج منه كتابة جديدة وجريئة، تغيّر نوعيّة كتابتنا، كما غيّرت في السابق البُعد الأيديولوجي والتبشيري والتعليمي في الرواية، حيث كان على الروائي أن يكون مرشداً. أعتقد أنّنا انتهينا من هذا التوجّه بفضل الكم الهائل من الكتابة. أنا لا أدّعي أنّني على اطلاع على كل ما يُكتَب لأنني بعيدة، لكنّني أرى الزاوية الإيجابية في الكتابة الشبابية. > هل تعتقدين أن النقاد يَرَون ذلك؟ - أنا لا أؤمن بأنّ النقاد هم المقياس، النقد عندنا مقصّر عن سرعة الحركة التي تتطوّر فيها الكتابة السردية. يعني، مثلاً، هناك نقاد ما زالوا يقيّمون الرواية بناء على نظريّات الستينات. صحيح أنها كانت حقبة مهمة جداً، لكنها انتهت. المجتمعات العربية الآن في مكان آخر، لا نعرف بعد إلى أين سنصل. عندما صدرت روايتي «حجر الضحك»، انصبّ همّ النقاد، مع الأسف، حول كيف أنه من المعقول أن تكون الشخصية إيجابية ومثليّة في الوقت نفسه، كما أنّ نقاداً كباراً تحدّثوا عن عدم وجود «الشارع «- بالمعنى الجماهيري الأيديولوجي- في الرواية. وأنا كنت أكتب، تحديداً، عن شخص ضيّعته «أجواء» شارع الحرب الأهليّة. شعرت بأنّهم يقرأون أدب التسعينات بذهنيّة الستينات. وأنا، من الأساس، بعيدة جداً من هذه النظريات النقدية، وما زلت. في روايتي الأخيرة «بريد الليل» اعتمدت مبادرات سردية عدّة، أعلم أنّها مجازفة كبيرة، ليس كتقنيّة بل كروح سرد، بمعنى إلى أين أذهب بهذا السرد، كل رواية أكتبها، أشعر بأنّني أدخل مغامرة جديدة على مستويات كثيرة، لذلك كل خمس سنوات حتى أُصدِر رواية. > إلى أين يذهب بك السرد؟ - لا أدري، في معظم الأوقات، وأنا أكتب أحاول أن أسأل السؤال نفسه، لأنني، فعلاً، لا أعرف. أبدأ الكتابة من طرف خيط، أو من جو معين، أو ربما تشير لي إحدى الشخصيات بالاقتراب منها، بسماع «صوتها»... وسير السرد تخلقه عملية كتابة الرواية، وليس قبل البدء بالكتابة. لكنني أستطيع القول الآن، إنني عندما أُقدِم على مغامرة في الكتابة السردية أدرسها جيّداً، لأنني بعد هذه الخبرة، لم أعد أجرّب بالمعنى التجريبي الكامل، يعني، بحسب سؤالك، لا أكون أعرف إلى أين سأصل، لكنني أعرف ما إذا كان الطريق صحيحاً أم لا. وأغيّر مسار نصّي كلّما اكتشفت أشياء جديدة أثناء الكتابة. فأنا لا أشعر بأنني مرغَمة على الكتابة، أو بالأحرى مرغمة على النشر في مواقيت أو مهل محدّدة...، على أيّ حال بداية الرواية تجعلني أشعر إن كان من الأفضل الاستمرار بالكتابة أو لا. مرّة أخرى أقول إن الكتابة مغامرة كبرى لا تعني فقط الكاتب نفسه أو قارئه المحلّي أو مجتمعه الضيّق الذي يسمع أصداءه في العائلة أو في المقهى... وأتمنى أن يأخذ السرد الرواية العربية من المحليّة إلى العالميّة، بعيداً من الفولكلور، وأن يكفّ الخارج عن النظر إلينا ككتّاب دون سنّ الرشد، آتين من الأطراف أو كقبائل منقرضة. > هل تحقّق معك هذا الأمر؟ - نعم، وأنا سعيدة بتحقيقي ذلك. لم يعد يقرأني الخارج، أو تتم ترجمة أعمالي من أجل التنويع الأنتربولوجي، أو الشبق الإكزوتيكي أو كريبورتاج عن أحداث بلداننا، أو ليعرفوا الإسلام، وكيف تكتب نساء المسلمين. مثلاً مرّت فترة طويلة كانوا يترجمون للكاتبات اللواتي يتحدّثن سلباً عن الإسلام، لأنّ هذا الأمر يناسب السوق والأهواء الغربية. أصبحت الآن خارج هذه المعادلة، وقد انتبَهَت دور النشر إلى أنّ هذا النوع من الأدب قصير النفَس، يتهافت القرّاء عليه لفترة محدودة، بعد أي انفجار أو عملية إرهابية... ثمّ ينصرفون عنه. لذلك أدركوا أنهم إذا أرادوا التعرّف إلى هذه المجتمعات، عليهم أن يتعرّفوا إلى أدب كتّابها بلغتهم، وليس ما يُكتَب نيابة عنهم. فهُم ليسوا فولكلوراً ولا ريبورتاجاً. وقد بدأ هذا التحوّل، وهو أمر مهم، ويجب الاستمرار بذلك، ونستحق أن نستمر ونحافظ على هذه الصورة. > «ملكوت هذه الأرض» كانت رواية كبيرة الحجم، في حين أنّ روايتك الجديدة «بريد الليل» لا تتعدّى الـ 136 صفحة، هل كان اتجاه التكثيف عن قصد بسبب صعوبة الأسواق الغربيّة؟ - لا أبداً. عندما أبدأ الكتابة، يتّضح فوراً الاتجاه، وأدرك الحجم الذي ستكون عليه الرواية. «ملكوت هذه الأرض» تتحدّث عن مدّ زمني من العشرينات حتى بدايات الحرب الأهلية اللبنانية، كنت أكتب مجتمعاً، لا أحد، تقريباً، يعرف عنه شيئاً، حتى أنا حفرت فيه رغم أنه مجتمعي لكنني لم أنشأ فيه. حجم الرواية لا أحدّده سلفاً، لكنني أحدسه، انطلاقاً ربّما من الطاقة الدافعة لعمليّة الكتابة ونوعيّة اللغة السرديّة. وقد كتبوا عن «ملكوت هذه الأرض» في صحيفة «لو موند» الفرنسية مثلاً، أنها ليست مجرّد رواية تؤرّخ للبنان أو للعالم العربي ومصائر أقليّاته فحسب، بل هي رواية مهمّة على المستوى العالمي، من حيث إنّها عملت على العناصر الدينية والخرافية والتاريخية، وسبكتها بأسلوب خاص. > كيف تتقبلين تباين الآراء حول أعمالك؟ - أنا مغرورة بكتابتي، عندما لا تعجب بعض الناس، أقول، بفرح، هذا يعني أنّ الرواية ممتازة، ومتقدّمة على زمنها. وأنا بغنى عن بعض النقاد الذين يكتبون بسطحيّة، وهُم بذلك يعرّضون مقالهم للنقد وليس الرواية، فيكون المقال هو السيئ وليست الرواية سيئة. وأنا أعرف هذا الأمر جيداً، وأجرؤ على قول هذا الكلام، لأنّني أقرأ كثيراً، أقرأ الروايات العالمية المتقدّمة، ذات المستوى الرفيع، وأراقب أين وصلت، فأشعر بأنّنا مظلومون جداً على صعيد نقد نتاجاتنا. > هل يعبّر البريد في روايتك الأخيرة عن فكرة التحوّل الذي يحدث في العالم، حيث فقدنا التواصل مع بعضنا كبشر؟ - هو رمز. > رمز لما قبل التكنولوجيا ولما قبل توجه الإنسان نحو المادية؟ أو لتعاطي الإنسان مع الآخر؟ - لا، ليس المقصود هنا التكنولوجيا، بل تعاطينا بعضنا مع بعض. أتحدّث عن العالم العربي لأنّ شخصيات الرواية الذين يكتبون الرسائل كلّهم عرب. وكلّهم، تقريباً، يعرفون أنّ هذه الرسالة لن تصل، وهي غير مكتوبة لتصِل. لا عناوين تُرسَل إليها. لأننا لم نعد نحسِن قراءة هذا العصر، وقراءة بعضنا بعضاً. نتكلّم، لكنّ كلامنا لا يصل إلى الآخر. وهذا الجرح يدفعنا إلى تخفيف التواصل بكل قضايا العصر، وهذه القضية أصبحت عالمية، نعيش خللاً كبيراً على مستوى المجتمع الإنساني ككلّ. خرجنا من حروب التحرير ولم نعرف أين دخلنا، خرجنا من الأيديولوجيات ولا ندرك ما إذا كانت الماديات قد استهلكتنا، وما إذا كانت تحكمنا العولمة فعلاً ونهائياً وإلى غير رجعة. شبكات التواصل هل تأكل روحنا أم أنها تسهّل تواصلنا مع بعضنا؟؟؟ نحن نتكلّم كثيراً جداً، ونكتب كثيراً جداً وفي وعن أي شيء لكننا لا نقول شيئاً!! ربّما لهذا أيضاً جاءت الرواية في اقتصاد كبير وفي بخل عن الثرثرة. > هل يمكن أن نصل الى وقت نطالب فيه بحقوقنا أن لا يكون لدينا حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي؟ - أنا شخصياً أغلقت حسابي «الفايسيوكي» بعد يومين. نعم، هذا ما أقصده في أننا نعيش في هذا العالم المختل حيث الأجوبة عن أسئلتنا تصبح أكثر ابتعاداً، وكل فترة نشعر بأننا توغّلنا أكثر فأكثر في منطقة عدم توازن خطير. كله مشكوك فيه ومبهم. أردت أن أقول إنّ الغرباء عن بلدانهم، المهجّرين، الفقراء، الهاربين في أرض الله، ضحايا المجتمعات القاسية، ضحايا الديكتاتوريات، الذين تربّوا في بلدان هي أشبه بالفلاة، وصاروا مجرمين، هم منقطعون نهائياً، وغير محسوبين في أيّ من الجردات، أي لا قيمة ولا أهمية لهم، ولا وزن اقتصادياً أو ثقافياً أو سياسياً أو اجتماعياً لهم. وهذه الفئة من الناس تهمّني كثيراً. في «بريد الليل» كل شخصية غريبة في البلد الموجودة فيه. كانت غريبة في بلدها، ومتجهة إلى منطقة غريبة، وهي بدورها غريبة عن نفسها. كإحدى شخصيات الرواية، من كان عنيفاً يعذّب المعتقلين، في حين أنّنا نشفق عليه وهو يكتب لأمه. يعني كمية العنف هذه التي تربّى عليها، إلى أي درجة هو مسؤول عنها، وإلى أين ستأخذه؟ وهل كان عنده خيارات ثانية؟ لنفرض مثلاً أنّ هناك سلّم قيم أخلاقياً أو دينياً نكص به لكن بم استبدله ولماذا؟ ربما هذا ما يفسّر كيف أنّ بلداناً مثل بلداننا فرزت كل هذا العنف والدواعش... مَن يدري؟ كل شخصية كتبت رسالة وهي مدركة أنها لن تصل. وجاء الفصل الثاني من الرواية ليتكهّن بردّ فعل الأشخاص الذين وجّهت الرسائل إليهم، ونواجه هنا غربة رابعة، حيث إنّ المتلقي غير جاهز لاستقبال الرسالة وفهمها والتواصل مع المرسِل. هم جميعاً في اللامكان. لذا كان عنوان الفصل الثاني «في المطار». «بريد الليل» أقرب ما يكون لهذا اليأس من التواصل، وللكلام عن هذه الفترة التي تعيشها الإنسانية كلها، وليس نحن فقط. > هل هي مشكلة شخصية مع المكان كونك عشتِ غربة؟ - طبعاً يؤثر هذا الأمر، لكنني أستطيع القول إن هذا اللامكان بدأ يريحني، لأنني تأكدت أنه ليس عندي مكان. بداية كنت أبحث وأتعذب، وأسأل أين أنا؟ وأين أنا من بلادي؟ أصبحت أشعر الآن بأنني حرّة، حتى من الانتماء إلى المكان. طبعاً يعني لي بيتي كثيراً، لكن انتزعت عنه صفة الهوية العميقة. عشت دائماً بين أمكنة عدّة، كان يؤلمني هذا الأمر، قررت في النهاية أنّ المكان هو الكتابة. اللامكان يجعل منك إنسانة حرّة، ليس لديك التزام هوياتي تجاه المكان، يمنحك قوة بأن تكوني نقدية، فلا تقبلين بما يقبله غيرك مجبراً. > هل أمان الشخصيات هو في اللامكان؟ - لا يوجد أمان، لكن، أحيانا، يكون القلق مغذيّاً للكتابة، ليس القلق بالمعنى اليومي، بل أن تشعري بأنك ما زلت تبحثين، ما زلت غير مقتنعة، غير مرتاحة، تطلبين من الكتابة أن تبحث معك، تحاول أن تكتشف شيئاً معك. أنا لا أكتب بسعادة علي أي حال. هو مزيج من حزن قلِق بقالب جمالي. فالكتابة تجعلك تأخذين، بشكل جدّي، غضبك وقلقك، لتستعيني بشخصيات روايتك لتحفري أبعد ليتساءلوا عنك أسئلة، أنت غير معرّضة حتى تتساءليها. أنا حياتي بسيطة جداً، أما شخصياتي فهم إما مجانين أو غير طبيعيّين، أو مشردون في الأرض... ما يدلّ على أنّ هذه الميول هي ميول القلق. > ولماذا الليل؟ - حقيقة، لدي صعوبة في اختيار العناوين. اخترت الليل لأنّ الشخصيات تنتهي أمام نافذة تنظر إلى الليل، إلى السواد الذي لا نرى منه شيئاً. > يعني أن رؤيتك سوداوية للمستقبل؟ - لا أتحدّث هنا على المستقبل، بل على رؤية الواقع الذي نعيشه. معناه أنّنا لا نرى، على الأرجح هي سوداوية، لكنّني لا أحب الكلمة، وربما أرى أنها عمى أكثر منها سوداويّة. أي أنّنا إلى هذا الحد لا نرى، ولا نستطيع أن نحدّد ما نريد، أن نتأمل الغد، ليس لدينا مخطّط، لأنّنا لا نفهم العالم الذي نعيش فيه لنقول هذا أملنا بالــــغد، هذا حلمنا. انكسرنا، وأصبح ما فاتنا أكبر بكثير ممّا ننتظره ونحن لا نستطيع أن نخرقه أو حتى أن نراه، هناك عـــمى، هناك سد، هناك حائط.
مشاركة :