قال خطيب جامع الخير بقلالي الشيخ صلاح الجودر إن الناس في هذا الزمان في حاجة إلى قلب رحيم، ورعاية حانية، بحاجة إلى كنف يسعهم، وحلم لا يضيق بهم، في حاجة إلى قلب يمنحهم العطف والحنان، يحمل همومهم ولا يضجر لشكاواهم. إن كمال الطبيعة البشرية يتمثل في الرحمة، فهي تجعل المرء يرق لآلام الخلق فيسعى لإزالتها، وتضميد جراحاتهم، فيتمنى هدايتهم وسعادتهم، فالرحمة تحمل صاحبها على البر والإحسان، جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جعل الله الرحمة مائة جزء، أنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه) [البخاري ومسلم]. إن رحمة الله لا تشبه رحمة المخلوقين، فهو أرحم الراحمين، وهو خير الراحمين، وسعت رحمته كل شيء، قال تعالى: «رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيء رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ» [غافر: 7]، وجاء في الحديث القدسي: (إن رحمتي تغلب غضبي) [متفق عليه من حديث أبي هريرة]، وفي محكم التنزيل: «وقُل رَّبّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأنتَ خَيرُ الراحِمِينَ» [المؤمنون: 118]، «فَاللَّهُ خَيرٌ حَـافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الراحِمِينَ» [يوسف: 64]. إن هناك علاقة كبيرة بين الهداية والرحمة، وكلما كان نصيب الفرد من الهداية أكبر كان حظه من الرحمة أوفر، قال تعالى عن نبيه محمد «وَمَا أَرْسَلْنَـاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـالَمِينَ» [الأنبياء: 107]. والرحمة كانت من أعظم صفات النبي، لذا قال تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ» [آل عمران: 159]، وقال: «لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ» [التوبة: 128]. والإسلام جاء رحمة للبشرية جمعاء، لذا فإن المسلم الحق هو الذي يحمل في قلبه رحمة الله للناس أجمعين، فيسأل عنهم، ويوسع عليهم، ويواسيهم، فعن ابن مسعود، عن النبي أنه قال: (لن تؤمنوا حتى تراحموا، قالوا: يا رسول الله، كلنا رحيم، قال: إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة العامة) [الطبراني ورجاله ثقات]. والرحمة ليست للقريب أو الصديق، ولكنها رحمة العامة، وقد جاء العموم في أحاديث رسول الله، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يرحم الله من لا يرحم الناس) [متفق عليه]، وفي الحديث الآخر: (من لا يرحم لا يرحم)، قال الشيخ ابن بطال رحمه الله: (في هذا الحديث الحض على استعمال الرحمة للخلق، فيدخل المؤمن والكافر، والبهائم المملوك منها وغير المملوك، ويدخل في الرحمة التعاهد بالإطعام والمساعدة في الحمل وترك التعدي بالضرب). إن رحمة الله تستجلب بطاعته، وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: «وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» [آل عمران: 132]، وقال تعالى: «وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» [الحجرات: 10]. ومن جالبات رحمة الله إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد دعا رسول الله إلى رحمة الخلق أجمعين، (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) [أبو داود والترمذي]. وإذا كان الأمر كذلك فإن من أولى الناس وأحقهم بالرحمة الوالدين، فببرهما تُستجلب الرحمة، وبالإحسان إليهما تكون السعادة، قال تعالى: «وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيانِي صَغِيرًا» [الإسراء: 24]، ثم من بعد ذلك الأولاد، فعن أسامة بن زيد قال: (كان رسول الله يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الأخرى، ثم يضمهما ثم يقول: اللهم ارحمهما، فإني أرحمهما) [البخاري]. ويرتبط بالوالدين والأولاد حق ذوي الأرحام، ثم معاملة الخدم والمستخدمين، والترفق بهم فيما يكلّفون به من أعمال. وممّن تتطلب حالتهم الرحمة المرضى وذوي الاحتياجات الخاصة، وكذلك الصغار فإنهم محتاجون إلى رحمة خاصة، ففي الحديث: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا) [أحمد والترمذي]، واعلموا أن تعاليم ديننا الحنيف في هذا الباب تتجاوز الإنسان إلى الحيوان، فجنات عدن تفتح أبوابها لامرأة بغي سقت كلبًا فغفر الله لها، ونار جهنم فتحت أبوابها لامرأة حبست هرة حتى ماتت!! فبالرحمة تجتمع قلوب الناس، وبالرفق تتآلف نفوسهم، لا يشعر بحاجة المحتاج، ولا يحسّ بألم المريض إلا من له قلب كبير، جاء رجل إلى النبي يشكو قسوة قلبه فقال له: (أتحبّ أن يلين قلبك؟! ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك يلنْ قلبك). قبل أيام أثارت تعديلات قانوني التقاعد الجديدة حفيظة فئات كثيرة من المجتمع، وكادت تحدث فتنة وشقاق بين الناس، ولكن بحكمة عاهل البلاد فقد أوقف تلك الفتنة حين أصدر توجيهاته بمراجعة مشروعي قانوني التقاعد بما يحفظ حقوق وأموال المتقاعدين، وفي هذه لمسة أبوية حانية قد أثلجت صدور كل أبناء المجتمع البحريني.
مشاركة :