رحل عن عالمنا صباح السبت، بطل يدين له الوطن بدور عظيم في نصر أكتوبر، هو اللواء باقي زكي يوسف، صاحب فكرة استخدام مضخات المياه للتغلب على أصعب ساتر ترابي في التاريخ الحديث. ورغم صغر سنه حينها وحضوره وسط قادة كبار، فإنه أطلق الفكرة التي ساهمت في رد أرضنا وكرامتنا، وكانت عبقرية الفكرة تكمن في بساطتها، بل وسُجلت كبراءة اختراع وأصبحت تُدرس في الكليات والمعاهد العسكرية على مستوى العالم، وهي فكرة استخدام مضخات المياه لفتح ثغرات في خط بارليف. كان البطل الراحل رئيس فرع المركبات بالجيش الثالث الميداني، غرب القناة في مايو 1969، عندما صدرت تعليمات بالاستعداد للعبور، وكانت أكبر مشكلة أمام الفرقة التغلب على الساتر الترابي وفتح ثغرات فيه، حسب ما جاء في «الأهرام». اللواء باقي زكي يوسف من مواليد 1931 وتخرج في كلية الهندسة جامعة عين شمس قسم ميكانيكا عام 1954، والتحق بالقوات المسلحة في ديسمبر 1954 وتدرج في القوات المسلحة حتى رتبة لواء، وتم تكريمه بنوط الجمهورية من الطبقة الأولى على أعماله الاستثنائية فى حرب أكتوبر. واستعان الإسرائيليون بشركات متخصصة ودرسوا وبنوا خط بارليف وكلفوه ملايين، وظلوا يرفعون منه ويزيدون عليه سنوات متتالية على أساس أنه سيكون حدود إسرائيل ولا يمكن اختراقه. صمم خط بارليف حاييم بارليف، رئيس أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي في ذلك الوقت، وكان هدفه فصل سيناء عن مصر بشكل نهائى ليحول دون وصول الجيش المصري إلي الضفة الشرقية للقناة، وتم إنشاء ساتر ترابي منحدر ومرتفع ملاصق لحافة القناة الشرقية بطول القناة من بورسعيد إلي السويس. ليضاف للمانع المائي المتمثل فى قناة السويس. يتكون خط بارليف من تجهيزات هندسية ومنصات للدبابات والمدفعية وتحتل أرضه المدرعات ووحدات مدفعية ميكانيكية، وتحديدًا 22 موقعا دفاعيًا و26 نقطة حصينة بطول 170 كم على طول قناة السويس. تم تحصين كل مباني الخط بالكتل الخرسانية وقضبان السكك الحديدية المسروقة من سكك حديد سيناء، بالإضافة لتغطيتها بأطنان من الصخور والرمال لامتصاص كل أشكال القصف الجوى والأرضي مهما كان حجمه، هذا بالإضافة إلى الأسلاك الشائكة ومناطق الألغام وأنابيب النابالم الحارق أسفل مياه القناة، وكان هناك شبكات تليفونية تربط كل نقاط الخط ببعضها البعض من ناحية وبالقيادة داخل فلسطين المحتلة من ناحية أخرى. كان خط بارليف يعلو يوماً بعد يوم، ويتكون من كثبان رملية طبيعية تكونت من ناتج حفر قناة السويس، وكانت رمال حفر القناة وصخوره تلقى على الضفة الشرقية من القناة باعتبار أن الناحية الغربية أراضي زراعية. أضاف الاحتلال الإسرائيلي الكثبان الرملية الطبيعية مع ناتج حفر قناة السويس وكميات أخرى ضخمة من الرمال حتى أصبحت درجة ميل الساتر الترابي مع قاع القناة 80 درجة، واقترب أن يكون زاوية قائمة حتى يصعب الصعود عليه أو انهياره ، و أصبح ارتفاعه ما يقرب من 20 متراً. ودرس خبراء العسكرية السوفيتية خط بارليف بشكل دقيق وأكدوا أن الساتر الترابي لا يمكن تحطيمه إلا بقنبلة نووية، وبالطبع لم وكان أحد المعضلات الكبرى فى عملية اقتحام خط بارليف كيفية فتح ثغرات فى الرمال والأتربة التى لا تؤثر فيها الصواريخ لعبور ناقلات الجنود والمدرعات والدبابات إلى سيناء. وكان الجيش المصري يبعث بعمليات خلف خطوط العدو نجحت في جمع كل المعلومات التي يحتاج إليها جيشنا المصري، وفي عام 1969 صدرت الأوامر بالاستعداد للحرب، وأثناء اجتماع القادة برئاسة اللواء سعد زغلول عبدالكريم لدراسة الأفكار المقترحة للعبور، كانت كل الاقتراحات التي تم عرضها زمن فتح الثغرة فيها كبير، يتراوح بين 12 – 15 ساعة، وكانت الخسائر البشرية المتوقعة لا تقل عن 20% من القوات. وحتى دخل المقدم وقتها باقي زكي الاجتماع تذكر عمله بالسد العالي، حيث كان يعمل كمنتدب في بداية الستينات من إبريل 1964 وحتى 1967، ومضخات المياه التي كانت تهزم التراب في دقائق معدودة، فرفع يده للحديث قبل أن يحل دوره في الكلام، فطلب منه القائد الانتظار حتى يحل دوره، ولكنه أكد أن ما سيقوله مهم وعاجل، فسمح له، فقال: «انتو بتقولوا رملة .. وربنا أدانا الحل قدام المشكلة وتحت رجلينا وهو المياه.. وفي الحالة دي المياه حتكون أقوى من المفرقعات والألغام والصواريخ وأوفر وأسرع»، وبمجرد أن أنهي حديثه وجد سكون في القاعة، لدرجة أنه وصف هذه اللحظة فيما بعد قائلًا «خفت أكون خرفت». ولأن الأفكار الجريئة كان لها مساحة كبيرة للتنفيذ تم فتح باب النقاش بين قادة كل الأسلحة، كل في تخصصه، ولم يكن هناك مشكلة مبدئية بالنسبة للفكرة، ولكن كان الأهم أن تكون مضخات المياه صغيرة، بلتركيبها على القوارب المطاطية ويمكن المناورة بها لتأمين سلامتها وسلامة الجنود المسؤولين عن تشغيلها. بعد عرض الفكرة على قائد الفرقة اللواء سعد زغلول عبدالكريم، تحدث مع نائب رئيس العمليات اللواء أركان حرب محمود جاد التهامي، وأخبره أن ضابط برتبة مقدم في فرقته لديه فكرة يريد عرضها عليه، فسأله: «اسمه إيه؟» قاله فلان، قال: «أنا عارفه ده ما بيهزرش هاتهولي». وخلال 12 ساعة، ما بين الساعة 12 ليلا وحتى الساعة 12 ظهر اليوم التالي، وصلت الفكرة إلى أعلى مستوى في القوات المسلحة، وخلال أقل من أسبوع وصلت للرئيس جمال عبدالناصر، القائد الأعلى للقوات المسلحة. وبذل سلاح المهندسين مجهودًا كبيرًا لتحسين الفكرة في سرية تامة، ووتنفيذ عملية استيراد المضخات من ألمانيا باعتبارها وسيلة زراعية. وبفضل هذه الفكرة نجحت قواتنا المسلحة في عبور القناة خلال 4 ساعات بدلا من 12 ساعة، وكانت قواتنا تتدفق على الضفة الغربية، وفي الساعة 10 مساء كان هناك 80 ألف جندي مصري على الجانب الآخر من الضفة. فقد العدو توازنه بفضل وعبقرية وإخلاص قواتنا المسلحة، لدرجة أن القادة الإسرائيليين عندما بلغهم بداية عملية العبور وحدوث الثغرات سألوا: «كيف ينجح المصريون في فتح هذه الثغرات؟. حصل اللواء باقي على نوط الجمهورية العسكري من الدرجة الأولى من الرئيس أنور السادات عام 1974، وبه إشادة بأعمال استثنائية، كما حصل على وسام الجمهورية من الطبقة الثانية من الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك عام 1984، ولكنه ظل يذكر أن أكبر وأهم تكريم حصل عليه، عندما طلب تسجيل فكرة المضخات باسمه.
مشاركة :