اتضح من التجربة التنموية السنغافورية مثال مقالنا السابق أن إصلاح بيئة الاستثمار الوطنية هو الخطوة الأولى لإرساء التنمية المستدامة لارتباطها بتحفيز الاستثمارات الوطنية وتنمية القدرة التنافسية على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، حيث أصبحت الأخيرة مؤشرا لديناميكية التنمية، لما لها من آثار إيجابية على ميزان المدفوعات عبر تدفق رؤوس الأموال الأجنبية، وبالتالي فإنها مصدر جيدًا للحصول على العملات الأجنبية وزيادة رأس المال المادي في الدول المضيفة وتوفير التمويل اللازم للمشاريع التنموية الاستراتيجية، وبلوغ المستجدات في عالم التقنية والمعلومات والاتصالات، وما يقود إليه ذلك من فرص لتحسين الإنتاجية كمًّا ونوعا وكيفا، ورفع معدل القيمة المضافة وزيادة التشغيل وامتصاص البطالة وارتفاع مستويات الدخل العام والخاص، والحد من الفقر على مختلف أنماطه، وتحقيق أشواط متقدمة على خطى تحقيق الرفاهية الاقتصادية وصولا إلى تحقيق التنمية المستدامة، حيث إن الاستثمار بغض النظر عن نوعه أو مجاله يظل محكوما بعاملين اثنين هما (عامل المخاطرة، وعامل العائد) ووفقا للعوامل المؤثرة على مستوى المخاطرة أو على مستوى العائد يكون المناخ الاستثماري إما أن يكون مناخا ملائما للاستثمار وإما أن يكون غير ملائم، محفزا أو طاردا للاستثمار، وعليه هناك حدود دنيا من الواجب توافرها في أي دولة للقول إنها وفرت بيئة جاذبة للاستثمارات، لعل أبرزها يتمثل في توافر الموارد الطبيعية وخاصة الطاقة الرخيصة، والاستراتيجية الاقتصادية الواضحة والمعلنة، والنظام المصرفي والنقدي الفعال، مع إتاحة البيانات المالية، والإحصائيات الاقتصادية السليمة والمنتظمة للمستثمرين، وتوفر البنية الأساسية الكافية، والموارد البشرية المؤهلة، بالإضافة إلى سعة السوق (داخليا أو إقليميا) المقرونة بالقوة الشرائية المرتفعة للمواطنين، فضلا عن الاستقرار السياسي والأمني الناجز، والنظام القضائي العادل، والإطار القانوني والتنظيمي المستقر. هذه المقومات التقليدية أصبحت مسلمات، وتطورت بمرور الزمن وأصبحت اكثر رشاقة وتخصصية وديناميكية، فأصبحنا اليوم أمام مقومات لبيئة الاستثمار تحاكي وتسبق وتحتضن التطورات التقنية والعلمية الاستباقية التي يشهدها العالم، فبرزت مفاهيم المدن الذكية، وبيئة الاستثمار الذكية، والحكومات الذكية، فماذا نعني بها؟ المدينة الذكية مصطلح جديد ظهر بعد سنة 2000 أسهم في إبرازه المهندسون المعماريون ومخططو المدن، يبرز هذا الاصطلاح في بناء المدن الجديدة وإدارة خدماتها من كهرباء وإضاءة ومياه وتدفئة ومواصلات واتصالات، وخدمات إلكترونية متطورة، تبدأ من تقنيات الإنترنت ولا تنتهي باستخدام الريبورتات في إنجاز الكثير من المهام في المدن الذكية، وتلاقفه السياسيون والاقتصاديون والمديرون وأعطوه إبعادا فكرية من أجل الوصول إلى تغييرات تقوم على تقنيات جديدة تستخدم في المدن، تستمد أفكارها من استغلال التقنيات الرقمية في تحسين الأوضاع البيئية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، التي تواجهها المجتمعات بعد انتهاء القرن العشرين، آخذين بنظر الاعتبار آليات التعامل مع المشكلات البيئية والاجتماعية، مثل تغير التركيبة السكانية (فئات المجتمع من شباب ومسنين، وتزايد عدد السكان)، ومعتمدين ذات الاتجاه في التعامل مع الأزمات الاقتصادية والمناورة بالموارد المتاحة. ويشمل اصطلاح المدينة الذكية أيضا تجديدات ليست تكنولوجية تستطيع توفير حياة أفضل لسكان المدن، من ضمنها مثلا فكرة المشاركة (Link Sharing) أو إشراك المواطن في تخطيط مشرعات كبيرة في المدينة. أما بيئة الاستثمار الذكية فهي البيئة التي تعتمد المنتجات التقنية المعاصرة المتاحة في المدن الذكية، بحيث يستخدمها المستثمر كبنية تحتية جاهزة لإنشاء مشروعه وترتبط فكرة الاستثمار الذكي بفكرتي «الابتكار» و«مجتمع المعرفة».. أما الحكومات الذكية فهي الحكومات التي تنجز مهامها الإدارية عبر شبكة المعلومات العنكبوتية بكفاءة عالية وكلفة أقل وبزمن قياسي، وترتبط بمؤسسات المجتمع المدني والبنوك والمؤسسات المالية والعالم الخارجي عبر شبكات المواصلات الذكية وبما ينعكس إيجابا على خفض تكاليف الاستثمار وسرعة إنجاز معاملات المستثمرين فحسب، كما تعرف أيضا بأنها التطور الديناميكي لنموذج الحكومة الإلكترونية الذي ظهر في العقد الماضي، واعتمد تطبيقات الويب والبوابات الإلكترونية وصياغتها بطريقة تعكس الأحداث الحياتية للمواطن وسلّة خدمات الأعمال (Life Events & Business Episodes)، مع الانفتاح والاقتراب من المواطن من جهة، والتفاعل المباشر والمتزامن مع البيانات المنتشرة في المجتمع ومكوناتها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية من جهة أخرى. فما الذي تمكنا من تحقيقه في عالمنا العربي في هذا المجال؟ وما الذي يجب أن نسعى إلى إنجازه لنستطيع أن نواكب التطور العالمي؟ هذا ما سنتعرض له بالتحليل في المقال القادم إن شاء الله.
مشاركة :