د. يوسف مكي الرابع والعشرون من شهر يونيو/ حزيران، هو يوم فرح حقيقي بامتياز بالنسبة إلى المرأة في المملكة العربية السعودية، بشكل خاص، ولشعب المملكة والمناصرين للحق في الحرية، والكرامة الإنسانية والمساواة في العالم بأسره، بشكل عام. ففي هذا اليوم التاريخي، سمح للمرأة في السعودية، رسمياً بقيادة السيارة، فعند الثانية عشرة ليلاً من 23 يونيو/ حزيران، بات من حق المرأة في المملكة الجلوس أمام المقود، بدلاً من المقعد الخلفي للسيارة. إن هذا التحول هو بحسابات عمر الشعوب، خطوة صغيرة، ولكنه بالنسبة إلى بلادنا، أمام الثقافة الراكدة التي جثمت طويلاً على صدورنا، نقلة نوعية على طريق اكتساب المرأة السعودية حقوقها كافة، ولكي تساهم بجدارة واقتدار في مسيرة التنمية والبناء والتقدم. لم يأت القرار السامي الذي صدر قبل عشرة أشهر من هذا التاريخ، بالسماح للمرأة في المملكة بقيادة السيارات من فراغ. فقد بات هذا الموضوع، أحد الشواغل الرئيسية للنخب الثقافية والفكرية والاجتماعية السعودية منذ عقود عدة. وخلال التسعينات من القرن المنصرم، تصاعدت المطالبات من قبل النخب النسوية بالسماح للمرأة بقيادة السيارة. ومع الدعوات التي برزت في بداية هذا القرن للإصلاح السياسي والاجتماعي، انتشرت المقالات والكتابات في الصحف المحلية، مناصرة لهذا الاستحقاق، باعتباره خطوة على طريق التحاقنا بالعصر الكوني الذي نعيش فيه. كما طرح الموضوع للمناقشة في مجلس الشورى. وكان للصديق محمد بن زلفة، دور ريادي بطرحه في المجلس. وتبارى عدد من الكتاب في الصحافة السعودية بتأييد طرح ابن زلفة. وفي حينه نشرت مقالاً في صحيفة «الوطن» السعودية، حمل عنوان «أضم صوتي مع صوت ابن زلفة»، مؤيداً من دون تحفظ للسماح للمرأة بقيادة السيارات. انطلقت تلك المطالبات، من اعتبارات عدة، أهمها أخلاقي يتمثل في الإيمان بالمساواة في الحقوق بين الجنسين، وأن منع المرأة من السياقة هو وجه آخر لانتقاص حقها في المساواة مع الرجل. وذلك هو الأساس في المطالبات الشجاعة للنسوة، بتمكينهن نظامياً من السياقة. يضاف إلى هذا الدافع الأخلاقي، أسباب أخرى اقتصادية وتنموية وعملية وجيهة. فهناك المليارات من الأموال السعودية، تذهب هدراً إلى الخارج في صيغة مرتبات، للسائقين الأجانب، الذين تضطر العوائل لاستقدامهم، بسبب منع المرأة من قيادة السيارة، بما يعادل ألف دولار في الشهر لكل سائق. وقد بات ذلك يشكل عبئاً حقيقياً على العوائل من ذوي الدخل المحدود. كان على العائلة التي تستقدم سائقاً أجنبياً، أن توفر له الراتب، والمسكن، والعلاج، بما لا يتواءم مع قدراتها، وإمكاناتها المالية. ولكنها تجد نفسها مضطرة للتقتير على نفسها، لكي تقابل استحقاق هذا الاستقدام. وكثيراً ما لا يكون بإمكانها توفير سكن ملحق له بالمنزل، فتضطر إلى استئجار سكن له، بعيد عنها. وتكون العائلة في الحالات الطارئة مجبرة، على توفير خيارات أخرى، كالاستعانة بالجيران والأقارب، أو استئجار سيارة. وفي حالات كثيرة، تتضارب المواعيد، بين أفراد العائلة الواحدة، ولا يكون بمقدور السائق المنزلي التوفيق بينها جميعاً، فتضطر العائلة، إلى استقدام أكثر من سائق، أو اللجوء إلى خيارات أخرى، نتيجة لعدم السماح للمرأة بقيادة السيارة. ولا شك في أن هناك اعتبارات تنموية، سيتيحها هذا التحول. فقد أعلنت على سبيل المثال لا الحصر، «شركة كريم»، عن عزمها توظيف أربعة آلاف سيدة سعودية، في مهنة السياقة، وسيكون ذلك إسهاماً في القضاء على البطالة. وبالمثل، ستتمكن المرأة من الذهاب إلى عملها بحرية، ومن غير حاجة إلى سائق. بعض هؤلاء النسوة، يتقاضين راتباً لا يتجاوز الألف دولار في الشهر، وهو مبلغ لا يكاد يكفي لراتب السائق المستقدم. وعلى الصعيد الاجتماعي، ستقوى هذه الخطوة من الترابط والتضامن والعلاقات وسط المجتمع النسوي، بعد أن أزيل عائق رئيسي من عوائق اللقاء والاتصال. وسيمكن الواقع الجديد، من خلق ثقافات جديدة، في كثير من المجالات، ستحمل إيجابيات كثيرة، وبعضاً من السلبيات. لكن شأنها في ذلك، هو شأن أي تحول إنساني إيجابي كبير. ولن يكون مقبولاً أن نكون مسكونين بهواجس الخوف والتردد، فتلك هي سنن التطور، وهي سنن لا مهرب منها، ولا غنى عنها. وهي في النهاية تجعل منا جزءاً فاعلاً في هذا العالم، وفي القلب من حركته، وليس نشازاً فيه، أو عبئاً عليه. وأخيراً يقتضي العرفان بالجميل، التذكير بأن هذه الخطوة لم يكن لها أن تأخذ مكانها، من دون قرار القيادة السعودية، ممثلاً في الأمر السامي الذي صدر عن خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز. لقد كان هذا القرار كسراً شجاعاً لحلقة الجمود التي سادت طويلاً. كما يقتضي ذلك أيضاً، التنويه بدور النخب الفكرية والثقافية التي بشرت طويلاً بهذا اليوم، وجعلته أمراً واقعاً، وبينها المقالة الجريئة، قبل عقدين من الزمن لحسين شبكشي: «إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً»، وعضو مجلس الشورى محمد بن زلفة. والرائدات السعوديات، اللواتي بشرن بهذا اليوم منذ مطالع التسعينات، واللواتي تحدين المشاق والمصاعب، وأسهمن في صناعة هذا اليوم، وهن كثيرات. خالص التهاني للمرأة السعودية في هذا الحدث التاريخي الكبير. إنه فعلاً خطوة حقيقية على طريق الألف ميل، طريق الاستحقاق الكامل للمرأة في الكرامة والمساواة. yousifmakki2010@gmail.com
مشاركة :