قدم الشاعر إيهاب خليفة تجربة شعرية متنوعة انطلاقا من ديوانه “أكثر مرحا مما تظن” (1997) الذي صدر عن سلسلة ديوان الكتابة الأخرى، ثم “طائر مصاب بإنفلونزا” و”مساء يستريح على الطاولة” و”قبل الليل بشارع”، وقد احتفي بنصوص في معظم الدوريات العربية المتخصصة، كما تناولتها العشرات من الدراسات النقدية لشعراء ونقاد من مختلف الأجيال. البحث عن الجماليات يقول إيهاب خليفة “أول ما كتبتُ كان الشعر الموزون على البحور أحادية التفعيلة، وبالطبع كان لديّ صنم يدعى القافية، ظننت أن هذا الصنم جوهر لا يوجد شعر إلا به. عموديا بدأت الشعر ربما كشعراء كثيرين، شعر هذه المرحلة تلاشى من الذاكرة تماما ولم يبق منه سوى أبيات قليلة في الذاكرة، ثم تبدل الشكل سريعا في المرحلة الجامعية، فأضحى الشعر تفعيليا بفضل قراءات لصلاح عبدالصبور والبياتي ونازك الملائكة والسياب وأمل دنقل وغيرهم. أما التبدل الثاني فكان حين توجهت إلى أتيليه القاهرة وزهرة البستان تحديدا ربما لمعرفة سبل نشر قصائدي المزعومة”. ويضيف الشاعر “في القاهرة بدأ مفهومي للشعر يتصدع كليًّا، ومفهومي للحياة أيضا بدأ يتصدع على عتبات العشرين، وكل شيء سأهدمه لأشيده من جديد، شرط أن أكون مستعدا لفعل ذلك دائما. كتبت التفعيلة على نهج روادها، وفازت بعض نصوصي بعدد من الجوائز، ثم أصبحت قصائدي التفعيلية هي الأخرى عرضة لاغتيال قاس وفي انتظار إعصار ثان لا قلب له، لا محاباة عنده، لا يعرف مقدسا، لا يبجل أطرا مرجعية، لا يعد بيقين ولا يمنح غفرانا، النسيان حضر هذه المرة بنفسه لإخفاء أشعار هذا المرحلة، ولم يترك لي منها سوى النزر القليل”. أهمية قصيدة النثر ترجع إلى نسفها لليقين المعرفي والأطر الجمالية السابقة، وطرحها الأسئلة الوجودية الشائكة خرج خليفة من الجامعة وقد طوى صفحة من الكتابة، متطلعا إلى صفحة أخرى ليست ذات تضاريس واضحة، تكمن روعتها، كما يقول، في جعل النص مغامرة كبرى، واكتشافا متجددا لأرض جديدة للشعر لا تعرف الجغرافيا، بل تتشكل جغرافية النص عبر تجارب طويلة قادمة، حيث من الممكن كل مرة إعادة التشكيل. ويرى خليفة أن قصيدة النثر نص إشكالي، ينطلق إلى مجرات بعيدة، يفتش عن جماليات متجددة بأدوات تجافي أدوات الشعر القديمة المستهلكة غالبًا، إنه نص يخلق إيقاعه الذاتي من تلقاء نفسه، ولا يركع أمام أوثان الخليل بن أحمد الفراهيدي، كما أنه يبغض التوقع والتقوقع والمجانية، والاستنساخ والأواني المستطرقة واستقراء الوصفات الجاهزة وصياغة نصوص تراعي تطبيقها بالحرف. ولما كان المتلقي للنص الشعري الجديد مغايرا للمتلقي الكلاسيكي الذي يقدس الإنشاد فقد توارى الإيقاع الهندسي في ما توارى، وأصبحت هناك بلاغتان: قديمة وجديدة؛ تتصارعان على الهيمنة على المشهد الشعري، البلاغة القديمة بدت كعجوز تقدمت بها السن، وافترستها التجاعيدُ بينما بدت فتية ونضرة الجمال البلاغةُ الناشئة، والشعر قيصر العواطف والمشاعر كلها لا يعرف الرحمة حين تتعلق المسألة بوجوده كشكل فني يواجه مصيره، فكل صراع بين قديم وجديد يُحْسَم لصالح الجديد الذي يضحى بعد فترة قديما يزيحه جديد آخر. يؤكد الشاعر أن أهمية هذه القصيدة ترجع إلى نسفها لليقين المعرفي والأطر الجمالية السابقة، وطرحها الأسئلة الوجودية الشائكة التي لا تنشد حلا وإنما تقشر الوجود؛ لتبدي لنا جوهره حتى ولو كان مشينا أو صادما. مهمة قصيدة النثر هي الاصطياد في الماء العكر؛ إنها تسعى على الدوام لتلغيم الطمأنينة، وإرباك الحواس. القصيدة الجديدة وحول المشهد الراهن لقصيدة النثر يشير خليفة إلى أنه يتابع النص الشعري الجديد بشغف شديد، ويقول “تأتيني دواوين ومخطوطات من كل مكان، وأرى أن أجمل نصوص قصيدة النثر يتشكل ببراعة واقتدار مدهشين؛ ليكوِّن أيقونة جمالية كبرى مع منجز الشعراء الذين حفروا عميقا -في عقود سابقة- المجرى المضاد للكتابة التقليدية. القصيدة الآن منجز مبهر لا يقل إمتاعا عن أهم النصوص الشعرية التي أنتجت في أزهى العصور، بل لقد تجاوزت قصيدة النثر الشعر التفعيلي برمته والعمودي كذلك، وأزاحتهما إلى منطقة معتمة شبه منسية، لقد أضحى الشعر الفائت المنبوذ من شعراء النثر غير قادر على تجديد نفسه، يراوح بيأس في المكان؛ لم يعد متنا بل صار هامشا. الشعراء الآن باتوا قادرين على خلخلة ثوابت الشعر على مختلف أنساقها اللغوية والمعرفية والفلسفية والجمالية والرمزية”. قصيدة النثر نص إشكالي، ينطلق إلى مجرات بعيدة، يفتش عن جماليات متجددة بأدوات تجافي أدوات الشعر القديمة أما المشهد الشعري بشكل عام فيلفت الشاعر إلى أنه رغم كل ما يجري من احتفاء كرنفالي بالشعر -شعر البلاط، والشعر المنبطح تحت أقدام السلطة، والشعر المنكس الرأس أمام منصة النقاد المحكمين آلهة الذوق وصانعي الأسماء الكبيرة الواهية، عبر مسابقات وجوائز ومهرجانات ومطبوعات- ورغم تكريس مواقع ومؤسسات تدأب على تقويض ما تطرحه تجارب القصيدة الجديدة، في محاولة مستميتة لاسترجاع بساط الشعر تحت أقدامها المتيبسة، ورغم إقصاء شعراء النثر من التكريم المستحق عبر لجان تهيمن باستماتة، لتقصي النص الجديد، بإعطاء دروع وشهادات ونياشين لتجارب مكرورة وشبه مجانية ولا تمثل المتن الحقيقي للشعر الآن، رغم كل ما سبق لم يعد الشعر العربي ملكيا ولا ساكنا في الأعالي، لقد خرج من بلاط المماحكات، وبهو الرِّق، يتنفس حرية وحياة؛ لذا وحدها القصيدة الجديدة المنفلتة من كل الأطر الجامدة سابقة التجهيز تتنامى مقدمة أطروحات جمالية فوق التوقع. ويردف قائلا “أعجبني ما يطرحه الشعراء في الدول التي تفترسها الصراعات، الشعراء الذين جعلوا من مآسيهم أيقونة شعرية جمالية مبهرة، فقدموا منجزا شعريا حقيقيا، وأصبح الشعر وطنا بديلا، الشعر كيوتوبيا حاضر وأيضا كديستوبيا؛ تؤوي إليه أفئدة مذبوحة بخراب العالم”. ويضيف خليفة “بات واضحا أن تلك الصراعات العربية/ العربية التي ضجت منها اليابسة هي وقود حركة شعرية فوارة بالأسئلة هادرة، لذا صار الشاعر الآن حفار قبور يشيع ثورة أمل تارة، ويشيع مدينة مهدمة تارة أخرى. تلك الفضائح والفظائع هي اقتطاع الحبل السري الثاني للشاعر، ليفهم أن مكانه الدائم إما في حضن الحبيبة وإما فوق فوهة فوارة قابلة للاشتعال، هذا المنحى في توثيق الحروب والتناحر اللامتناهي أعطى للنص الجديد بعدا أشبه بما كان بعد الحرب العالمية الثانية، لتصبح قصيدة النثر هي النص الأكثر صدقا وتعبيرا عن واقعنا المأزوم، وتغدو بحق هي الديوان الجديد للعرب”. ويؤكد إيهاب خليفة أن القارئ الآن يستطيع تلمس ملامح القصيدة الجديدة التي لم تعد تخطئها عين؛ سيجدها سوريالية، أو مستعيرة النسغ الخفي للكائنات منطلقة في الوجود اللامرئي لعوالم متخيلة تزاحم الوجود نفسه، سيجدها تخلق أساطير من لا شيء، سيجدها متجردة من كل إطار؛ تتنامى مجاورة لكل هذه الأشكال. وشدد خليفة على أن كتابة قصيدة تعني أن تلغم الوجود بأسئلة كبرى لا تقبل الإجابات السطحية ولا المحسومة مسبقا، أن تظل على الدوام مهيئا لصدام مع السلطة بوصفها ألدّ أعداء المثقف الحقيقي، الشعر والسلطة لا يتصالحان، والشعراء هم رأس الحربة في مواجهة جمود السلطة وتغولها ومحاولاتها المشينة للهيمنة على رئة الحياة وأحلامها، لذا ستلاحظ دائما أنهم يمكرون بالشعراء ويغازلونهم بالعطايا أو يستدرجونهم لأقبية الصمت والنسيان.
مشاركة :