ترددت مشاهد وصرخات الأطفال الأمريكيين اللاتينيين الذين فصلهم ضباط حرس الحدود الأمريكيين عن أمهاتهم وآبائهم في مختلف أنحاء العالم. لقد تركت تلك التجربة المريرة أثرها العميق في أنفس أولئك الضحايا الذين عاشوها كما أنه كان من المؤلم مشاهدة تلك الصور واللقطات التي ألحقت ضررا فادحا بفكرة أمريكا نفسها. هذا هو يونيو، الشهر الذي كان يفترض أن نحتفل فيه بتراث المهاجرين. ففي كل سنة كنت أنتهز الفرصة كي أذكر بتاريخ عائلتي المهاجرة – الفرصة التي أتيحت لها والحرية التي حصلت عليها، والمعاناة الكبيرة التي عاشتها، والتقدم الكبير الذي تحقق لها في غضون جيل واحد من الزمن، لا أكثر. لقد ذكرت من قبل أنني تعلمت الكثير من دروس الحياة المستفادة من الطريق الذي سلكته عائلتي والمسيرة التي قطعتها، كما تحدثت بالتفصيل عن الفرق ما بين حياة المهاجرين في الولايات المتحدة الأمريكية وأولئك الذين هاجروا إلى أوروبا. تحدث صديقي مايكل بارودي أيضا عما يسميه «كيمياء الولايات المتحدة الأمريكية» التي أسهمت في تحويل الناس من مختلف الأجيال والثقافات المتعددة إلى أمريكيين. لقد تحولت بلادي أيضا في نفس الوقت الذي تحول فيها المهاجرون إلى أمريكيين. لا يمكن اليوم أن نتحدث بكل بساطة عن الأوجه المتعددة للثقافة الأمريكية من دون أن نعترف بفضل الثقافات الأخرى العديدة التي جعلت منا ما نحن عليه اليوم. لقد أدركت في نفس الوقت أن هذا التاريخ الجميل قد ظل يتعايش طوال هذه المدة الطويلة مع خطايانا الأولى المتمثلة في العبودية والابادة والتطهير العرقي والاحتلال أيضا. يتمثل التحدي الذي ظل يواجهه كل جيل من الأجيال المتعاقبة في التصدي لبقايا هذا الإرث والعمل على بناء صورة أفضل لفكرة الولايات المتحدة الأمريكية. هذا ما أردنا القيام به من خلال إطلاق فعالية «شهر تراث المهاجرين». أواجه اليوم مشكلة حقيقية حيث إن مشاهد وأصوات العائلات على الحدود والفترة الصعبة التي مروا بها والمعاناة الكبيرة التي عاشوها لا تزال عالقة بذهني حتى أن إيماني بفكرة الولايات المتحدة الأمريكية قد اهتز. لقد انزعجت كثيرا من سطحية مواقف بعض الليبراليين الذين اكتفوا بالقول بكل بساطة: «نحن لسنا هكذا» و«هذه ليست قيمنا». في الحقيقة لقد أثبتنا في مراحل عديدة من تاريخنا «أننا هكذا فعلا». هذا الكلام صحيح وخاصة اليوم. فهذه الإدارة الأمريكية، المدعومة من الكونجرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون وجانب كبير من الرأي العام، هي التي تريد أن تبني الجدار وهي التي تفرض حظرا على دخول المسلمين وهي التي تقبل بخطاب الرئيس حول خطر استقبال أبناء البشرة الملونة في الولايات المتحدة الأمريكية وهي التي تريد أن تنهي العمل بسياسة لم شمل العائلات وهي التي تريد أن تضع قيودا على دخول اللاجئين وأولئك الباحثين عن اللجوء إلى الأراضي الأمريكية. أن نتجاهل أو ننكر مدى تأثير خطانا الأولى على ثقافتنا السياسية فتلك مصيبة وهي لعمري مصيبة تزيد في هشاشتنا وتغرينا بخطايانا الأولى. أنا أعني بكلامي أيضا أولئك الذين لم يدركوا مدى فداحة تلك المشاهد المؤلمة التي جاءتنا من الحدود الجنوبية للولايات المتحدة الأمريكية. على عكس ما قاله البعض فإن هذه الصور لا تضاهي تلك النكسة التي هزت إدارة جورج بوش في أعقاب إعصار كاترينا. يعود السبب في تلك الكارثة إلى انعدام كفاءة إدارة جورج بوش عقب ذلك الاعصار الذي ضرب الولايات المتحدة الأمريكية. ما يحدث اليوم أمام ناظرينا مختلف كل الاختلاف وهو نتاج سياسة متعمدة تحكمها حسابات معينة ولدت من رحم العنصرية وهي ترمي إلى مخاطبة أسوأ النزعات العنصرية في صفوف أنصار الرئيس. لقد ظل السيد دونالد ترامب يعد الأرضية اللازمة لمثل هذه السياسات على مدى أعوام كرس فيها خطابا معاديا للمهاجرين القادمين من الجنوب إلى الولايات المتحدة الأمريكية. فقد اعتبرهم أحيانا أنهم يمثلون خطرا قاتلا يتهدد بلادنا، الولايات المتحدة الأمريكية، وثقافتنا وشعبنا. لقد شن عليهم مرة أخرى حملة شعواء واعتبرهم قتلة ومغتصبين ومجرمين كما قال انهم ببساطة يمثلون عبئا يعيقنا عن التقدم إلى الأمام. عندما تهان كرامة المهاجرين ويداس بهذه الطريقة على إنسانيتهم فإنه يصبح من السهل التعدي عليهم كما أنه يصبح من السهل على أولئك الذين يبحثون للرئيس عن الذرائع ان يبرروا مثل تلك الانتهاكات. فالمحللون في محطة فوكس نيوز على سبيل المثال قد اعتبروا أن صراع وبكاء الأطفال مجرد «تمثيل» كما أنها انتقدوا آبائهم واعتبروا أنهم هم الذين عرضوا عائلاتهم للخطر. وقد قالوا كلاما مبطنا مفاده أنهم يستحقون ما يتعرضون له مع أطفالهم. لقد تجاهل دونالد ترامب وجماعته العنف والفقر المدقع في البلدان الأصلية التي ينحدر منها هؤلاء المهاجرين والذين جازفوا بكل بحياتهم وكل شيء في حياتهم وقطعوا آلاف الأميال سيرا على الأقدام مع أطفالهم طمعا في اللجوء إلى الولايات المتحدة الأمريكية. لقد كانوا يبحثون عن الأمن والأمان والحرية والفرص المتاحة لعائلاتهم، لذلك فأنا أعتبرهم أبطالا، لا مجرمين. إن قصص هؤلاء المهاجرين في الوقت الراهن تختلف كثيرا عن قصص أولئك الايرلنديين الذين فروا من المجاعة أو اليهود الذين فروا من المحرقة أو مواطني أوروبا الوسطى والجنوبية الذين فروا من الحرب والمشاكل الاقتصادية والقمع الفاشي والشيوعي. إنها مسألة شخصية لي أيضا لأن هؤلاء المهاجرين الذين نراهم اليوم يذكرونني بالقصة التي عاشتها عائلتي المهاجرة. إنهم يشبهون جدي الذي اصطحب زوجته وأطفاله السبعة عبر جبال لبنان حفاظا على حياتهم وقد مات بعد ذلك في بلاد المنفى، تاركا وراءه ارملة وأطفالها المهجرين. هؤلاء الأطفال والشبان غير الراشدين الذين فصلوا عن عائلاتهم يشبهون عمي حبيب الذي اختارته عائلتي وهو في الرابعة عشرة من عمره كي يهاجر وحيدا إلى الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1910 كي يمهد الطريق للعائلة كي تلتحق به العائلة بعد ذلك. أما المهاجرون الذين لا يحملون اليوم أي وثائق فهم يذكرونني بوالدي الذي لم يستطع الحصول على التأشيرة اللازمة التي تمكنه من الالتحاق بعائلته وقد استطاع بعد ذلك الدخول إلى الولايات المتحدة الأمريكية ويعيش متخفيا إلى أن استفاد من العفو العام وحصل على الجنسية وأصبح مواطنا أمريكا بعد مرور عشرين سنة من وصوله إلى الأراضي الأمريكية. على غرار كل القادمين الجدد الذي حطوا الرحال بالولايات المتحدة الأمريكية فقد عانت عائلتي من التعصب وتجشمت كل الصعاب وكابدت وكدت حتى تحقق لها النجاح في نهاية المطاف. هذه قصتنا الأمريكية وهي القصة إلى نحتفل بها من خلال الكلمات التي كتبت على تمثال الحرية وهي أيضا الكلمات التي ظلت تلهم الأجيال وتمثل منارة لكل «المُرهَقِين والفقراء والباحثين عن الحرية» من شتى أنحاء العالم. إن هذه الأفعال الوحشية التي حدثت من إدارة دونالد ترامب هي التي ألحقت ضررا كبيرا بالولايات المتحدة الأمريكية. فمشهد وأصوات الأطفال الصغار وهم يعاملون بمثل تلك القسوة والوحشية ترددت في كل أنحاء العالم وأطفأت وهج تمثال الحرية وخلفت وصمة عار لا تزول على الفكرة السامية التي كنا نطمح إليها جميعا. أعتقد أن تأثير هذه الفظائع التي هزت الضمائر خلال الأيام الماضية والتي نجمت عن تلك المعاملة السيئة شبيهة إلى حد كبير بفضائح التعذيب في سجن أبوغريب في العراق. سيتطلب الأمر منا جيلا كي نطوي الصفحة ونستعيد ما خسرناه. { رئيس المعهد العربي الأمريكي.
مشاركة :