مركز الخليج للدراسات الإستراتيجية شكلت الطائرات من دون طيار، «دراونز» والتي تم تطويرها خلال العقدين الماضيين ما يمكن وصفه الآن بأنه «ثورة في عصر القتال الحديث»، حيث تعتبر هذه الطائرات تكنولوجيا ضرورية للغاية بالنسبة إلى القوات المسلحة في جميع أنحاء العالم، وربما أكثر التقنيات الابتكارية فائدة في التكنولوجيا العسكرية التي تم تطويرها منذ الحرب العالمية الثانية. ولعل ما يؤكد هذا التطور الصفقة، التي تمت الموافقة عليها في 14يونيو الجاري، بقيمة 1.18 مليار دولار؛ لتزويد ألمانيا بطائرات «هيرون تي بي» الإسرائيلية. والـ«دراونز» هي طائرات توجه عن بعد أو تبرمج مسبقا لطريق تسلكه، مزودة بأجهزة وكاميرات، وحتى بقذائف وصواريخ لاستخدامها ضد أهداف معينة، وعادة ما تستخدم للمراقبة والهجوم على المستوى العسكري، ولكنها تستخدم أيضا في مجالات مدنية أخرى متعددة مثل مكافحة الحرائق ومراقبة خطوط الأنابيب، وفي المهام الصعبة والخطرة وفي حالات الكوارث الطبيعية. ولا يحتاج هذا النوع من الطائرات إلى الأجهزة والمعدات التي تتطلبها الطيارات التقليدية، والذي أدى التخلص منها إلى تخفيف وزن الطائرة وتخفيض كلفتها. وتوفر هذه الطائرات ميزة عسكرية كبيرة للدول، بعد أن تحولت الحرب الحديثة -التي تستخدم تكتيكات ساحة المعركة المفتوحة- من الصراع التقليدي إلى صراع داخل الولاية، يتسم بكونه صراعًا مختلفًا بين أكثر من دولة، فضلاً عن وجود جهات فاعلة غير حكومية فيه، ما يعني أن معظم حروب العصابات ستعتمد فيها الدول على مكافحة التمرد من خلال نهج تكتيكي. ومن خلال هذا التجسيد لشكل الحرب، الذي تم اعتماده في الغالب على المناطق الحضرية المكتظة بالسكان، فإن الطائرات من دون طيار تقدم ميزة كبيرة من حيث دقتها، فبدلاً من القصف الشديد أو الهجمات الصاروخية التي اُستخدمت في الماضي؛ فإنها توفر القدرة على الضربات الموجهة بعناية نحو الهدف من خلال استخدامها قنابل صغيرة، يمكن رؤيتها من خلال الكاميرا، أو بأشكال مُتطورة من تكنولوجيا الليزر، بالإضافة إلى ذلك فإنها على النقيض من الطائرات النفاثة وطائرات الهليكوبتر، تحلق وتحوم فوق الهدف بساعات، ما يجعلها تعطي المحرك المزيد من المرونة وقت ضرب الهدف. فضلا عن أنها توفر حماية أكبر للمدنيين في مناطق القتال، وهو ما يؤكده «ريتشارد بيلديس» أستاذ القانون بجامعة نيويورك، في تقريره لمؤسسة «سميثسونيان» الأمريكية، من أن «الطائرات من دون طيار هي أكثر وسائل استخدام القوة تميزًا على الإطلاق»، حيث تنص المبادئ الأساسية لقوانين الحرب على ضرورة التميز والتناسب في استخدام القوة، والآن أصبحت هذه الطائرات تخدم هذه المبادئ بشكل أفضل من أي وسيلة أخرى، وينطبق هذا أيضًا على تقليل تعريض الجنود للخطر، الذين لا يتعين عليهم التواجد بالقرب من مواقع الصراع عند الاستعانة بها. فيما تمثل القدرات التكنولوجية التي تمتلكها تلك الطائرات، والمتمثلة في تعطيل القدرة التواصلية للقوات المُعادية، والسماح بتبني تكتيكات مثل تشويش الإشارات؛ أحد أهم المزايا المستخدمة في الحرب الحديثة. بالإضافة إلى قدرتها على منع القادة الإرهابيين أو عناصر المتمردين من التجمع في مجموعات كبيرة خوفًا من تعرضهم لهجوم مفاجئ، فضلا عن تعقبهم والقضاء عليهم، حتى وهم يقيمون في عمق الأراضي المُعادية، وهو ما يشير إليه «باتريك بي. جونستون»، أستاذ العلوم السياسية في مؤسسة «راند» الأمريكية للأبحاث والتطوير، بقوله: إن «التخلص من القيادات المُعادية كان يميل تاريخيا إلى تعطيل عملياتهم العسكرية وتقليل قدراتهم، وفي نهاية المطاف إضعاف المنظمات المسلحة». وفي السابق، كان هذا يمثل هدفًا بارزًا بالنسبة إلى الجيوش التقليدية، والذي لا يمكن تحقيقه إلا من خلال الاغتيالات، أو عبر مهام العمليات الخاصة المحفوفة بالخطر. إلا أن استخدام هذه الطائرات، والتي يصعب إسقاطها، ساعد في إمكانية التسلل خلف خطوط العدو لضرب القادة المُعادين. ولعل أحد الأمثلة على ذلك، مقتل «بيت الله محسود»، زعيم حركة طالبان الباكستانية عام 2009، بضربة من طائرة من دون طيار. والذي شكل مقتله إضعافا للحركة، بعد أن ظلت قوية على مدى العقد السابق. وفي هذا الصدد تقول «أني لوري»، محللة النزاعات، لمجلة «فورين بوليسي»: إنه «إذا استطاع الجيش الأمريكي قتل المتطرفين من دون التضحية بجندي واحد أو بالكثير من المدنيين أو بقوات تشارك على الأرض؛ فنحن بصدد رؤية مختلفة تمامًا للتعامل مع الإرهاب والحرب». أما الميزة الرئيسية الأخرى التي تقدمها طائرات الـ«دراونز»؛ فتتمثل في إنتاجها بثمن رخيص. ومع أنه حاليًا، أصبحت هذه الطائرات أكثر تطورا، وبالتالي أكثر كلفة، إلا أنه لا يزال شائعًا عدد من النماذج ذي إمكانيات بسيطة يُمكن تطويرها وتصنيعها بكلفة تصل إلى 2000 دولار تقريبًا، تصلح لكل من الأهداف الهجومية والمراقبة. ووفقا لمجلة «ذي إيكونوميست»، فإنه «بالمقارنة بباقي العتاد العسكري، فإن تكنولوجيا الطائرات من دون طيار متوافرة ومتاحة بسهولة، ويمكن تجميع سرب كامل منها بثمن أقل من كلفة صاروخ واحد يُطلق من على الكتف». ومع ذلك، فإن انخفاض كلفة إنتاجها، يحمل مجموعة من النتائج العكسية، تتمثل في قدرة الجماعات الإرهابية والمتمردة، على شرائها واستخدامها، حيث تشير بعض التقارير الصادرة في الأعوام الأخيرة حول الصراعات، إلى «زيادة استخدام هذه التقنية في تنفيذ العديد من الهجمات حول العالم». فيما تُستخدم على نطاق واسع في الشرق الأوسط من جماعات إرهابية مثل «حزب الله» وتنظيمي «القاعدة» و«داعش»، والتي اشترت طائرات مسلحة ومزودة بالتقنية الثلاثية الأبعاد. فوفقا لصحيفة «صنداي تلغراف»، استخدم «داعش» في أكتوبر 2017، طائرات من دون طيار لقصف مخزن للأسلحة تابع لقوات النظام السوري في مدينة دير الزور. وفي أوائل عام 2018 استخدم التنظيم أسطوله بالكامل من هذه الطائرات للهجوم على مواقع عسكرية روسية. ورغم أنه تم إسقاطها، فإن هذه السيناريوهات تبين مخاطر استخدام تكنولوجيا الطائرات من دون طيار والمتمثلة في توفير فرص لا مثيل لها أمام الجهات الفاعلة غير الحكومية لتنفيذ هجمات أثناء القتال. وثمة مصدر قلق آخر بالنسبة إلى الدول، يتمثل في قدرة الجماعات الإرهابية، التي تستخدم هذه التكنولوجيا على تنفيذ هجمات إرهابية في أماكن أخرى. فقد تعرضت أوروبا في الآونة الأخيرة لسلسلة من الهجمات الإرهابية التي نفذتها عناصر تنظيم داعش، ولا سيما أن الأجهزة الأمنية في معظم الدول في الوقت الحالي، تفتقر إلى القدرة على تعطيلها، حيث يشير التقرير الصادر عن مجلة «ذي إيكونوميست»، إلى أن «الأنظمة الدفاعية القائمة ليست مجهزة للتصدي للطائرات الصغيرة من دون طيار، التي يصعب رصدها واكتشافها وتتبعها». وقد صرح «جستن برونك»، الباحث المتخصص في القوة الجوية في «المعهد الملكي للخدمات المتحدة»، لصحيفة «ذا تلغراف البريطانية» بـ«أن خطر استخدام الجماعات الإرهابية للطائرات من دون طيار يُعتبر أكبر تهديد تواجهه الأجهزة الأمنية حول العالم اليوم». علاوة على ذلك، أعرب عدد من المحللين عن قلقهم فيما يخص زيادة استخدامها في الحرب الحديثة، فعلى الرغم من التأكيدات على دقتها، إلا أنها لا تستطيع التمييز بين المدنيين والمقاتلين، كما يُعتقد في أغلب الأحيان. وغالبًا ما ترتكز المبررات التي تلجأ إليها الدول لتبرير استخدامها للطائرات من دون طيار، إلى مزاعم بأنها تقلل من الخسائر بين المدنيين. وكان هذا هو التبرير الذي قدمته إدارة «أوباما» لاستخدامها في كل من أفغانستان واليمن وباكستان والصومال في الفترة من عام 2008 حتى عام 2016، وحددت الإدارة الأمريكية السابقة الرقم الكلي لأعداد الوفيات في ذلك الوقت، فوجدته يتراوح بين 64 و116 قتيلاً، وهو رقم صغير مقارنة بعدد القادة والعناصر الإرهابية التي زعمت أنها نجحت في القضاء عليها، الذي يتراوح بين 2372 و2581. ومع ذلك أشارت تقديرات «مكتب الصحافة الاستقصائية»، البريطاني، إلى أن عدد القتلى المدنيين في تلك الدول قد ارتفع ليصل بين 423 و965 قتيلاً خلال تلك الفترة. وغالبا، ما تستخدم الحجج المتعلقة بقدرتها على عدم قتل المدنيين كجزء من أسباب أوسع وأكثر تجريدية وأخلاقية لها انعكاسات سلبية خلال الحرب الحديثة، حيث أكد أكاديميون، أن تلك الطائرات ما هي إلا تقنية لديها القدرة على «تجريد وسائل الحرب من مبادئ الإنسانية». وعلى النقيض من الصراعات السابقة، حيث كان على الدول المتصارعة مواجهة بعضها مباشرة، أو من قرب، إلا أن قدرة هذه الطائرات على تأدية مهمتها بعيدا عن ساحة المعركة يمكن أن تنتقص إلى حد ما من العنصر الإنساني. وفي الوقت الذي تعد فيه الخسائر وأعمال العنف هو ما يثني الدول عن الدخول في حرب ما أو الحصول على مزاياها، هنا تصبح تلك الطائرات خيارًا مؤكدًا، الأمر الذي يشير إليه البروفيسور «ديفيد كورترايت»، من معهد «كروك لدراسات السلام الدولية»، بأمريكا من أن «أي تطور يجعل الحرب تبدو أسهل أو أرخص يعد أمرا مزعجا للغاية»، وخاصة أن استخدام تلك الطائرات «ينال من أخلاقية استخدام القوة العادلة التي تمثل جوهر عقيدة أي حرب مهما كانت». ومن ثمّ، فإنه على الرغم من الميزة العسكرية الواضحة التي توفرها الطائرات من دون طيار، وفائدتها من الناحية التكتيكية؛ فإن النقاش مازال مستمرًا حول استخدامها، لأسباب أخلاقية واستراتيجية، وخاصة أنه في عالم يتضاءل فيه تأثير الصراعات على الأرواح، سيجد صناع القرار السياسي بواسطة تلك التقنية خيارًا سهلا عليهم أفضل من أسلافهم السابقين، الأمر الذي يجعلها من المرجح أن تستمر في تشكيل الحروب والسيطرة عليها لسنوات قادمة.
مشاركة :